وقوله : " وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " أي وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا وجحدت نعمتنا .
" قال فعلتها إذا وأنا من الضالين " أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي ، " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين " .
ثم قال مجيباً لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه : " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " أي وهذه النعمة التي ذكرت ، من أنك أحسنت إلى وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك .
" قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " .
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم ، من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية .
وذلك أن فرعون - قبحه الله - أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الإله : " فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى " " وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري " .
وهو في هذه المقالة معاند ، يعلم أنه عبد مربوب . وأن الله هو الخالق البارئ المصور ، الإله الحق كما قال تعالى : " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " .
ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما نم رب أرسله : " وما رب العالمين " لأنهما قالا له : " إنا رسول رب العالمين " فكأنه يقول لهما : ومن رب العالمين ؟ الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما ؟
فأجابه موسى قائلاً : " رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين " يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من المخلوقات المتعددة ، من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق . وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين .
" قال " أي فرعون " لمن حوله " من أمرائه ومرازبته ووزرائه ، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام : " ألا تستمعون " يعنى كلامه هذا .
" قال " موسى مخاطباً له ولهم : " ربكم ورب آبائكم الأولين " أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم ، من الآباء والأجداد ، والقرون السالفة في الآباد ، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ، ولا أبوه ولا أمه ، ولا يحدث من غير محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين . وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " .
ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع عن ضلالته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه : " قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسيرة للأفلاك الدائرة . خالق الظلام والضياء ، ورب الأرض والسماء ، رب الأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة ، والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون . فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء .
فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ، ولم يبق له قول سوى العناد ، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " .
وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد ، وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . أي عظيم
الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رهب شديد وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوماً إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال .
وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها ، أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نوراً يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه واستخرجها رجعت إلى صفتها الأولى .
ومع هذا كله لم ينتفع فرعون - لعنه الله - بشيء من ذلك ، بل استمر على ما هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ، وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه ، من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملئه ، وأهل دولته وملته . . ولله الحمد والمنة .
* * *