الأصل فى العبودية الامتثال والطاعة بأداء العبادات , سواء أدركنا حكمها ومنافعها ام لا ، فمناسك الحج مثلاً من طواف , وسعى ، ورمى للجمرات , وحلق او تقصير , وأضحية , وغيرها كل هذه الأعمال " لاحظ للنفوس فيها , ولا انس للطبع بها , ولا اهتداء للعقل إلى معانيها , فلا يكون للإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد , وقصد الامتثال للأمر من حيث انه أمر واجب الإتباع فقط , وفيه عزل للعقل عن تصرفه , وصرف النفس والطبع عن محل انسه,فان كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلاً ما , فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً معه على الفعل , فلا يكاد يظهر به كمال الرزق والانقياد " ( إحياء علوم الدين لأبى حامد الغزال 483 / 3 ) .
ومن يتأمل مناسك الحج وشعائره سيجد ان لها مقاصد تربوية عظيمة اقتضتها حكمة الله تعالى , لخير أراده الله لعباده .. ومن هذه المقاصد التربوية للحج :
-1 الامتثال والخضوع تحقيقاً للعبودية الخالصة لله تعالى :
فقد أراد الله من تكليف العباد بالعبادات أن يختبر مدى امتثالهم لأوامره , وانقياده لتعاليمه .. فالحج مثلاً يشتمل على مناسك وآداب ليس للنفوس حظ فيها , ولا للعقل آية
2
فيها سوى الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى , وإظهار الرق والعبودية له , والامتثال لطاعته جل شأنه .
ولنأخذ رمى الجمرات مثالاً لهذا الامتثال والخضوع , ويقول عنه أبو حامد الغزالي موضحاً هذا المعنى :" اقصد به الانقياد للأمر إظهارا للرق والعبودية , وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه , ثم اقصد التشبه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في هذا الموضع , ليدخل على حجه شبهه أو يفتنه بمعصية , فأمر الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله .
فان خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذالك رماه , وأما أنا فليس يعرض لى الشيطان , فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان , وان الذي ألقاه فى قلبك ألقاه ليفتر عزمك فى الحصى , ويخيل إليك انه فعل لا فائدة فيه , وانه يضاهى اللعب فلا تشغل به , فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير فى الرمي فيه برغم انف الشيطان . واعلم انك فى الظاهر ترمى الحصى الى العقبة , وفى الحقيقة ترمى به وجه الشيطان وتقصم به ظهره , اذ لا يحصل إرغام انفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيماً له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه " ( إحياء علوم الدين 489/3 )
-2 تصفية الروح واستجلاء القلب :
فالحاج قد اقبل على الله تعالى بعد ان طلق الدنيا واعرض عن زخارفها , وزهد في متاعها الزائف , فلبس ملابس
3
الإحرام ليأتي ربه فى ثياب الآخرة ثياب الكفن , ويرفع يديه باكياً متضرعاً راجيا ان يتقبله الله تعالى في عباده المتقين التأبين بعد ان غرته الدنيا سابقاً بمتاعها , ويلبى نداء الرحمن على لسان إبراهيم حينما أمره سبحانه فقال : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتوك من كل فج عميق ) ( سورة الحج , الآية 27 ) .
وهو حين يلبى فانه يعلن عودته إلى روضة الإيمان نادماً على ما بدر منه من تقصير ويقول :" لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك لك لبيك , إن الحمد والنعمة لك والملك , لا شريك لك لبيك " فقد اقر فى التلبية بالعبودية الحقة في الامتثال والطاعة , وبالتوحيد الخالص لله فى بداية التلبية وخاتمتها , فقدم الحمد لله معترفاً بهذه النعمة الجليلة عليه بان وفقه الله تعالى لهذه الرحلة المباركة وقبله زائراً لبيته الحرام .
ومن هذه اللحظة لا يكون هم الحاج إلا أداء مناسك الحج إرضاء لله سبحانه , مبتعداً عن ملذات الدنيا مقبلاً على الآخرة , فيجتنب الطيب , ويعتزل النساء , قاضياً وقته فى الدعاء والذكر وقراءة القرآن الكريم والاستغفار , وإعلان التوبة والندم على ما فرط فى جنب الله , ولا يكاد يحس بتعب او نصب مع ما فى الحج من مشقة بالغة , فروحه قد صفت , والإيمان قد وقر فى قلبه , فأمره بقوة إلى قوته , وبطاقة الى طاقته , ومن ثم يهون فى سبيل الله كل الم أو تعب , لان القلب قد ذاق حلاوة الإيمان , فلا عبره إذا بألم الأبدان .
4
-3 تهذيب الخلق وتربية الإرادة :
فالحج يهذب خلق الحاج ويربى فيه الإرادة وذلك لان الحج جهاد , بل هو أفضل الجهاد لما رواه الإمام البخاري فى صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يا رسول الله , نرى الجهاد أفضل الأعمال , أفلا نجاهد ؟ قال :" لا , لكن أفضل الجهاد حج مبرور ".
فالحاج يجاهد بماله فينفقه فى رحلة الحج ولوازمها , ويجاهد ببدنه فيتحمل مشاق السفر والزحام فى الطواف والسعي ورمى الجمرات , ويجاهد نفسه متحملاً فراق أهله , ويضبط نفسه ويلجمها عن ان تؤذى الآخرين أو ترد الإساءة بمثلها , ويصبر عن زوجه الحلال وهى أمامه , فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج , بل تقوى وبر وأعمال خير , استجابة للأمر الالهى : ( الحج اشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب ) ( سورة البقرة , الآية 197 ) .
يقول الزمخشرى فى تفسير هذه الآية :" اى فمن الزم نفسه بالتلبية او تقليد الهدى وسوقه عند أبى حنيفة , وعند الشافعي بالنية . وقوله (فلا رفث ) اى فلا جماع لأنه يفسده أو فلا فحش من الكلام .
5
وقوله : ( ولا فسوق ) يقصد به لا خروج عن حدود الشريعة , وقيل : هو السباب والتنابذ بالألقاب . وقوله : ( ولا جدال ) ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارى , وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب فى كل حال , لأنه مع الحج أسمج , كلبس الحرير في الصلاة والتطريب فى قراءة القرآن الكريم .
أما قوله تعالى : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) حث على الخير عقب النهى عن الشر , وان يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن , ومكان الفسوق البر والتقوى , ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة .
وأما قوله سبحانه : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) اى : اجعلوا زادكم في الآخرة اتقاء القبائح , فان خير الزاد اتقاؤها " ( الكشاف للزمخشرى 346/1وما بعده ).
فهذا الأمر ألهى يهدف إلى تقوية إرادة المسلم , فإذا آذاه احد أو أساء إليه كظم غيظه , والجم حميته ، وكبح جماح نفسه , فالموقف مهول , وهو اكبر من أن ينشغل عما هو فيه من طاعة بمثل هذا الجدل الذي لا طال وراءه إلا الشقاق والشحناء.
فالحج تدريب عملي للمسلم على تربية الإرادة وضبط النفس ، وإعلاء لجانب الروح على جانب المادة , حتى إذا ما عاد الحاج من حجه عاد كيوم ولدته أمه ما عليه من خطيئة , مصداقاً لما رواه الإمام البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق , رجع كيوم ولدته أمه "..