هل الاحتفال بالمولد النبوي من مظاهر محبة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فضيلة الشيخ / صلاح عبد المعبود بداية نود أن نقرر أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي جوهر الإيمان ، وأن حبه مقدم على حب المرء لنفسه وولده ووالده وماله وأهله والناس أجمعين ،وقد تقررت هذه الحقيقة من آيات وأحاديث كثيرة منها قول الله تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } (التوبة من الآية 24) ، وفي الحديث ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ........) (متفق عليه) ، وقوله صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (متفق عليه) ، والغرض من ذلك هو أن يكون حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حب أتباع منضبطا بموازين الشرع ، وأن يكون حديثنا عن سيرته وعن ميلاده صلى الله عليه وسلم مقيدا بما وضعه العلماء وما تعارفوا عليه من قواعد علوم الحديث التي تقتضي منا أتباع طرق التحري والضبط والأستيثاق من صحة ما نرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ننسبه إليه من الأحاديث ، وأن يكون حديثنا عنه صلى الله عليه وسلم في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .ومن المؤلم والمحزن أن بعض المسلمين جهلوا حقائق القرآن والسنة وتعاموا عن بعض التوجيهات فيهما وأهملوها واتخذوها ورائهم ظهريا ، فلم يلتفتوا إلى الجوانب العظيمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كالرسالة والبعثة ، وإنما وقفوا في ذلك عند حد الاحتفال بالموالد والتركيز على ولادته ونسجوا في ذلك الأساطير والأقاصيص والروايات الخيالية والأحاديث المكذوبة والتي تتناقض مع النقل والعقل وأخذ ذلك مظاهرا وأشكالا عدة تضيع معها الأموال وتهدر معها الأوقات .ومن هذه المظاهر ظاهرة المواكب المتعددة بعدد الطرق الصوفية في الغالب والعادة ، إذ تكاد تنحصر هذه الظاهرة في أوساط الطرق الصوفية ، فتخرج كل طريقة في موكب يضم أتباعها ، يتقدمهم شيخها والمقربون منه وترفع أمامها الأعلام ذات الألوان المختلفة التي ترمز إلى هوية الطريقة ونسبتها ، وغالبا ما يمتطي شيخها أو خليفتها - وقد يكون طفلا صغيرا – ظهر جواد تحوطه الناس يمنة ويسرة وبين يديه ومن خلفه ، وتنطلق أصوات الناس من هذه المواكب تردد الأناشيد على أنغام الموسيقى ودقات الطبول تصحبها الرقصات البهلوانية .ومن هذه المظاهر أيضا حلقات الرقص التي يسمونها بحلقات الذكر أيضا على أنغام الموسيقى والأناشيد والتصفيق وغير ذلك كثير من مظاهر الاحتفالات بالمولد ، تلك التي يندى لها جبين المسلم الواعي الفاهم لحقائق الإسلام فهما صحيحا .هؤلاء وأمثالهم يصرفون الناس ويصدونهم عما رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم للاحتفال به وتلك التي تتمثل في التقرب إلى الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من قراءة القرآن والصلاة والصيام وكل ما يستطيعوه المسلم من أعمال الخير والبر ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع وهو اليوم الذي ولد فيه وابتدئ نزول القرآن عليه فيه ، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن صيام ذلك اليوم فقال صلى الله عليه وسلم معللا ذلك بولادته وبداية بعثته في ذلك اليوم ، كما ثبت فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الاثنين فقال ( ذاك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت أو أنزل علي فيه ) (رواه مسلم 1162) ، كان يصوم ذلك اليوم من كل أسبوع وعلى طول الشهر وعلى مدى العام كله ، ولم يكن ذلك منه مرة واحدة في العام ، فأين هذا مما يفعله المسلمون اليوم مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه من بعده ؟!!أنهم لم يكونوا يفعلوا ذلك الذي يفعله الناس اليوم إذ أنه لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل فلم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على الاحتفال بمولده وإذا كان هذا الذي يفعله الناس اليوم هو الترجمة العملية لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يفعله أصحابه من بعده ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من سلف هذه الأمة الصالح ، ولو فعله أحد من هؤلاء لاشتهر ذلك عنه ونقله إلينا الخلف عن السلف في كل عصر ومصر فلو كان خيرا لسبقونا إليه .وإذا كان ما يفعله الناس اليوم هو من مظاهر حب الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الصحابة لم يفعلوه فهل هذا بغضا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أو تقصير منهم في حقه ؟ أو عدم تقدير منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا سلمنا جدلا بأن ما يفعل اليوم من الاحتفال بالمولد هو الصحيح ، فهل من يقوم به من الناس هم بذلك أكثر حبا للرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ؟ أولئك الذين ضحوا بأموالهم وبذلوا أرواحهم وحملوها على أكفهم فداء للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك عنهم بطريق لم يتطرق إليه شك .وهل من يفعل ذلك اليوم هم أكثر علما من الصحابة بما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين من المحبة والتقدير والتعظيم ؟ إن ذلك لم ولن يقول به أحد من العقلاء لا قديما ولا حديثا ، بل إن الأمر على عكس ذلك فإن الثابت عن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أنهم كانوا أشد الناس حبنا للرسول صلى الله عليه وسلم وأكثرهم تعظيما وتقديرا له وأكثرهم علما بما يجب له عليهم من المحبة والإتباع بدليل شدة تمسكهم بسنته وإقتدائهم به ، وقد زكاهم الله عز وجل في أكثر من موضع في كتابه في قوله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبيعونك تحت الشجرة } [الفتح من الآية 18] ، وقوله { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجهم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } [الفتح 29] ، وزكاهم كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) [متفق عليه] وعلى ذلك فالاحتفال بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من سنة خلفائه ومن كان كذلك فهو من البدع الممنوعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) (صحيح : رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني) .وفضلا عن هذا فأن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فيه تشبه بالنصارى ، لأنهم يحتفلون بمولد المسيح عليه السلام وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أكثر من حديث كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم ، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن ) (متفق عليه) .وقد أمرنا بمخالفة المشركين في قوله صلى الله عليه وسلم ( خالفوا المشركين ......... ) (رواه مسلم 259) ولا سيما فيما هو من شعائر دينهم .فضلا عن هذا كله فإن الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه بدعة وتشبه بالنصارى وكل منهما محرم فهو كذلك وسيلة إلى الغلو والمبالغة في تعظيمه حتى يفضي إلى دعائه والاستغاثة به من دون الله كما هو واقع الآن من كثير ممن يحتفلون بهذه البدعة من دعاء الرسول من دون الله وطلب المدد منه وإنشاد القصائد الشركية في مدحه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه فقال صلى الله عليه وسلم ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله ) (متفق عليه) ، أي لا تغلو في مدحي وتعظيمي كما غلت النصارى في مدح المسيح وتعظيمه حتى عبدوه من دون الله ، وقد نهاهم الله عن ذلك بقوله { يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } (النساء من الآية 171).ونهانا صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الدين خشيه أن يصيبنا ما أصابهم فقال ( إياكم والغلو ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) [صحيح : رواه النسائي وصححه الألباني] .وهذه بعض الأمثلة على مجاوزة الحد في مدحه :-قال البوصيري في بردته المشهورة :وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وهذا الغلو شنيع في حق نبينا حيث يزعم هذا القائل أن هذه الدنيا لم توجد إلا من أجله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون } (الذريات 56) .ويقول أيضا :يا أكرم الرسل مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وتأمل ما في هذا البيت من شرك واضح فهو ينفي أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو .ويقول أيضا :فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فهو قد جعل الدنيا والآخرة من جود النبي صلى الله عليه وسلم وعطائه وأفضاله وأن من علومه علم اللوح والقلم وهو قول في غاية السقوط والبطلان فإن مضمون قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب وقد قال سبحانه { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } [النمل من الآية 65] وقال أيضا { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [الأنعام 59] .وهذا محمد بن أبو بكر البغدادي من المغالين فيه صلى الله عليه وسلم يقول :أغثني أجرني ضاع عمري إلى متى بأثقال أوزاري أراني أرزأ
ويقول أيضا :ذهابا ذهابا يا عصاة لأحمد ولوذوا به مما جرى وتعوذوا
ذنوبكم تمحى وتعطون جنة بها درر حصباؤها وزمرد
وهو كلام واضح البطلان ففيه من الشرك مالا يخفى على كل ذي لب .وهذا عبد الرحيم البرعي اليماني يقول في مدحه صلى الله عليه وسلم :سيد السادات من مضر غوث أهل البدو والحضر
ويقول أيضا :يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم تلقاني
هب لي بجاهك ما قدمت من زلل جودا ورجح بفضل منك ميزاني
واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني
وهذه شاعرة أيضا تقول في مدحها للنبي صلى الله عليه وسلم :يا سيدي اسمع دعائي كن معين وأجب دعائي يا محمدنا الأمين
وغير ذلك كثير ممن غالوا في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رفعوه عن المنزلة التي أنزله الله إياها .وخلاصة القول :أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها ولا يغتر بمن يروج هذه البدع ويدافع عنها فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن ، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلا ، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والإقتداء به وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس وإنما يقتدي بمن سار على نهج السنة المباركة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلا فالحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق .قال صلى الله عليه وسلم ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) (صحيح : رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني)" . والله من وراء القصدكتبه / صلاح عبد المعبود