توقير العلماء
والاستفادة
من علمهم
لفضيلة الشيخ:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
(حفظه الله تعالى)
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
سابقاً
[شريط مفرَّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلّم وبارك
على عبد ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمّا بعد:
فإنَّ العلم الشرعي المستمد من كتاب الله عزّ
وجلّ وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم هو العلم الحقيقي الذي يُراد عند
الإطلاق والذي يُذكر الحاملون له ويوصفون بأنَّهم العلماء والرسول صلى الله
عليه وسلَّم أرسله الله عزّ وجلّ رحمةً للعالمين وأنزل عليه الكتاب
والحكمة وبلَّغ للناس كل ما يحتاجون إليه ودلَّ على كلِّ خير وحذَّر من كل
شر صلى الله عليه وسلَّم وقد هيَّأ الله عزَّ وجلَّ له أصحاباً كراماً
شرَّفهم الله عزَّ وجلَّ بصحبته وتلقي الشريعة عنه، فصاروا هم طليعة
العلماء وهو مقدّمتهم الذين تلقوا مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلَّم ذلك الحق والهدى، وكانوا رضي الله عنهم وأرضاهم معنيين بتلقي هذا
العلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام غاية العناية فكانوا يُلاَزمون
مجالسه صلى الله عليه وسلَّم ويسمعون حديثه ويحضر منهم في بعض المجالس من
يحضر ويغيب عنها من يغيب، ويحضر من غاب في مجالس أخرى يغيب عنها من حضر في
المجالس الأخرى، فتلقوا كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسوله صلى الله عليه
وسلَّم وكانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يتناوبون على المجيء إليه عليه الصلاة
والسلام، بحيث يوفقون بين مصالحهم الدنيوية وبين تحصيل العلم النافع
المتلقى من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلَّم، فقد جاء عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وأرضاه أنَّه قال إنَّه كان له جار من الأنصار وكان هو
وإيَّاه يتناوبان النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، هذا يحضر
يوماً، وهذا يحضر يوماً، فإذا حضر صاحب النوبة سمع من رسول الله صلى الله
عليه وسلَّم ما سمع في ذلك اليوم، فإذا رجع إلى بيته وإلى منزله التقى
بجاره الأنصاري فأبلغه ما كان سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام وهكذا
الأنصاري إذا نزل في نوبته وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما سمع
من الحق والهدى ثمَّ رجع إلى منزله أخبر جاره عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه وأرضاه بما حصَّله وبما سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام
من العلم في هذا اليوم. وكذلك عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه وأرضاه جاء
عنه كما في صحيح مسلم أنه قال: كنّا نتناوب رعاية الإبل فلمّا جاءت نوبته
أتى بها بعشي ثمَّ جاء وحضر بقية مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وسمع
ما سمع منه.
فهذا شأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد جاء عن
عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنَّه قال: كنَّا إذا تعلمنا عشر
آيات من القرآن لم نتجاوزهنَّ حتى نتعلَّم معانيهنَّ والعمل بهنَّ
فتعلَّمنا العلم والعمل جميعا. هذا شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلَّم، حرصوا غاية الحرص وبذلوا ما يستطيعون في تحمُّل هذه الشريعة
وتلقيها عن المصطفى صلى الله عليه وسلَّم وقد قاموا بما يجب عليهم نحوها
تحملاً وتأديةً على التمام والكمال وكان هذا من أسباب فضلهم وشرفهم ونُبلهم
رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لأنَّ كلَّ من جاء بعدهم لا يعرف الحق والهدى
إلاَّ من طريقهم ولم يبلغه الكتاب والسنَّة إلاَّ بواسطتهم فهم الواسطة
بين الأمَّة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ورضي الله تعالى عنهم
وأرضاهم، ولم يحصل للنَّاس شيء من الحق والهدى إلاَّ عن طريقهم رضي الله
عنهم وأرضاهم. ومن إستغنى عما جاء عن طريقهم فإنَّه لم يظفر بشيء من الحق
وإنَّما ظفر بالخذلان وظفر بالحرمان وسلوك سبيل غير المؤمنين لأنَّه لا صلة
تربط المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلَّم من بعد عهد الصحابة إلى
يوم قيام الساعة إلاَّ بالأخذ عن الصحابة ولهذا كان شأنهم رضي الله عنهم
وأرضاهم أنَّ لهم من الأجور ولهم من الثواب ما لم يكن لأحد بعدهم وذلك أنَّ
لحق والهدى الذي دلّوا عليه واستفاد منهم من جاء بعدهم لهم مثل أجور كلِّ
من استفاد هذا العلم عنهم واستفاد من هذا الخير بسببهم فلهم مثل أجور
الأمَّة منذ زمانهم إلى قيام الساعة وهذا فضل عظيم من الله عزَّ وجلَّ
عليهم وهذا مما فَضَلُوا به غيَرهم وتميَّزوا به على غيرِهِم رضي الله
تعالى عنهم وأرضاهم.
ثمَّ جاء بعدهم التابعون وساروا على منوالهم
وتلقوا ما تحمَّله الصحابة رضي الله عنهم، عن رسول الله عليه الصلاة
والسلام، تحمَّلوه عنهم وهكذا سلسلة متصلة الحلقات جيل يأخذ من الجيل الذي
قبله ثمَّ يأخذ عنه الجيل الذي بعده وهكذا. فدوَّنت السنَّة وحُفظت وتفقَّه
النَّاس في كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم.
فكانت هذه الطريقة المتبعة وهذه المحجّة الواضحة وهذا هو المسلك القويم،
وهو تلقي العلم عن أهله ولهذا كان هؤلاء العلماء من الصحابة ومن بعدهم ومن
سار على منوالهم وُصِفوا كما جاء في الحديث بأنَّهم الوُرَّاث لرسول الله
عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في الحديث أنَّ: «العُلَمَاء وَرَثَةُ
الأنبيَاء، وأنَّ الأنبيَاء لم يورِّثوا دينارا ولا درهما وإنَّما ورَّثوا
العلم فمن أخذ به أخذ بحضٍ وافر»، فكان هذا شأن علماء هذه الأمَّة من
الصحابة ومن تبعهم ، هم الوُرَّاث الذين وَرِثوا هذا الحق والهدى وهذا
العلم النافع الذي يتناقله كلّ من جاء بعدهم ويستفيد من علمهم ويذكرهم
بالخير ويُثني عليهم ويدعو لهم ويأجره الله عزَّ وجلَّ بالعمل بهذا العلم
النَّافع الذي أخذه عن طريقهم ويأجرهم الله عزَّ وجلَّ بمثل ما أثاب به هذا
الذي استفاد هذا الحق الهدى من طريقهم، فصار هؤلاء العلماء من الصحابة ومن
بعدهم هم الوُرَّاث الذين ورثوا هذا العلم النافع وهو ميراث النبوة فإن
العلماء الذين يشغلون أوقاتهم في تحصيل العلم النَّافع وفي بذله وفي نشره
وتدوينه هذا هو الذي يبقى لهم بعد وفاتهم وهذا الذي يكونون به أحياء بعد
وفاتهم، فإنَّ النَّاس إذا ماتوا إذا لم يُخلِّفوا علماً ولم يُخلفوا شيئاً
من هذا الميراث وهو ميراث النبوة، فإنَّهم يُنسوْن ولا يذكرون بعد فترة
وجيزة من وفاتهم ولكن هؤلاء تمضي السنين والأعوام وهم أحياء على ألسنة
الناس وفي أذهنة الناس وفي قلوب الناس وهذا هو الذكر الحسن الذي يبقيه الله
عزَّ وجلَّ لأوليائه.
هذا هو الذكر الحسن الذي به حيَّ هؤلاء بعد
موتهم بمئات السنين وقد نُسيَ من كان في زمانهم ممن لم يكن على منوالهم
وعلى منهاجهم فنحن الآن في القرن الخامس عشر ومع ذلك هناك أعدادٌ كثيرة من
سلف هذه الأمَّة دائماً وأبداً نسمع ذكرهم ودائماً وأبداً تمرّ بنا أسماؤهم
ويمرُّ بنا علمهم فنستفيد من علمهم ونترحم عليهم وندعوا لهم وهذه هي
الثمرة وهذه هي الفائدة الحقيقية من العلم النافع ومن اشتغل بتحصيل المال
وبجمع المال ولم يشتغل بتحصيل العلم النافع لا يرثه إذا مات إلاَّ أولاده
وورثته، وأمَّ هؤلاء فإنَّ ورثتهم كثيرين وهم ليسوا منحصرين في زمان
وإنَّما يرثهم العلماء ويرثهم طلاَّب العلم في كل زمان وفي كل مكان فيستفيد
من علمهم ويذكرهم بالخير ويثني عليهم.
ثم إنَّ هؤلاء العلماء الذين هذا شأنهم وهذا
وصفهم بذلوا ما يستطيعون في الوصول إلى الحق وفي تحصيل العلم النافع وفي
معرفة الأحكام الشرعية فقد بذلوا وسعهم وتوصلوا إلى ما توصلوا إليه وقد
كانوا جامعين بين معرفة الدليل والفقه في الدليل وهذا هو الغالب على كثير
منهم فإنَّهم جمعوا بين الفقه والحديث، جمعوا بين معرفة الآثار وحفظها
واستيعابها وبين الفقه فيها فكانوا أوعيةً للعلم وحفَّاظاً له وكانوا أيضاً
متمكنين في فهمه وفي معرفته، ولهذا كانوا يجمعون بين الدراية والرواية، لا
يكون همهم الرواية فقط ولا همهم الدراية فقط وإنما همهم أن يجمعوا بين
العلم والعمل وأن يجمعوا بين حفظ الأدلة وبين الفقه فيها ومعرفتها، ثمَّ
إنَّهم يتفقون فيما يتفقون فيه ويختلفون فيما يختلفون فيه وهذا الذي
يختلفون فيه منه ما هو اختلاف تنوّع ومنه ما هو اختلاف تضاد فاختلاف
التنوُّع لا يؤثر، ولا حرج فيه ولا يُقال إنَّ هذا مصيب وهذا مخطئ بل كلهم
مصيبون، لأن اختلاف التنوع كله جاءت به السنَُّة وكله حق، إن أخذ بهذا فحسن
وإن أخذ بهذا فحسن وهذا لا ُيضاد هذا ولا يٌخالف هذا، وهذا مثل ألفاظ
الأذان ومثل ألفاظ الاستفتاح ومثل ألفاظ التشهد وكل ما وردت به السنَّة وكل
ما ثبتت به من هذه الصيغ فان الأخذ بأي واحد منها يُعتبر حقاً ولا يُعتبر
أحدهم مصيب والآخرون مخطئون وإنَّما كلُّهم مصيبون لأن هذا حق .. وهذا حق
.. وهذا حق .. وهذا حق، وهذا يُسمى اختلاف تنوُّع.
وأمَّا اختلاف التضاد وهو كون هذا يَعْتَبر هذا
حلالاً وهذا يعتبره حراماً، هذا سائغ وهذا غير سائغ، هذا جائز وهذا غير
جائز، هذا يسمى اختلاف تضاد، وهذا الاختلاف الذي يجري بينهم، إنما أدَّاهم
إليه اجتهادهم، وهم بذلوا ما يستطيعون في معرفة الحق وكلٌ توصل إلى ما توصل
إليه وهو لا يعدم إمَّا أن يكون مصيباً أو يكون مخطئاً، ولكن لا يعدم أجرا
أو أجرين فإن أصاب في اجتهاده فإنَّه مأجور على اجتهاده وعلى إصابته وإن
أخطأ ولم يُوفق في اجتهاده فهو مأجور على اجتهاده وخطؤه مغفور لأنه قد بذل
ما يستطيع في سبيل الوصول إلى الحق فإن وفّق له فإنه يكون مأجوراً على
اجتهاده وعلى إصابته، وان لم يوفق فإنَّه يكون مأجورا على اجتهاده وخطؤه
مغفور.
هذا شأن سلف هذه الأمَّة وهذا شأن علماء
الأمَّة رحمهم الله فإنَّهم بذلوا ما يستطيعون وهم دائرون بين الأجر
والأجرين وهذا هو الذي يجب أن يُعْتَقَدَ في حقهم وهذا الاختلاف الذي حصل
بينهم وكون منهم من يوَفِّقَ للدَّليل والأخذ بالدليل ومنهم من لا يحصل له
ذلك ولا يتأتى له ذلك، ذلك بسبب ما بلغه من العلم ومعلوم أنَّ سنَّة رسول
الله صلى الله عليه وسلَّم لا يُقال أّنَه استوعبها أحد من النَّاس، أو أنه
يُمكن أن يستوعبها شخص من النَّاس بحيث لا يفوت عليه منها شيء فإنَّ هذا
غير ممكن وغير حاصل وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلَّم كان يُحَدّث في
بعض المجالس أحاديث يغيب عنها من يغيب ويحضرها من يحضر ويتحملها من يحضر ثم
تخفى على من لم يحضرها ولم تبلغه، ولهذا كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة
والسلام ورضي الله عنهم وأرضاهم وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين تحدث القضية
وتحدث المسألة فيما بينهم فلا يكون عند هؤلاء الخلفاء الراشدين الأربعة علم
بحكمها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فيتوقف فيها ويسأل ثم يأتي بعض
الصحابة فيخبر بأنه سمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كذا فيعتمد
ويذهب هذا الصحابي إلى ما بلغه من الحديث عن رسول الله عليه الصلاة
والسلام، كما جاء عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كلٌ منهم رضي الله عنهم
وأرضاهم تحدث له المسألة ثم لا يكون عنده علم بها عن رسول الله صلى الله
عليه وسلَّم فيسأل ويستشير ثم يبلغه الدليل عن الذي سمعه عن رسول الله عليه
الصلاة والسلام فيرجع ويعتمد على هذا الدليل الذي بلغه عن رسول الله عليه
الصلاة والسلام، وهذا ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه وهو من أوعية السنة
وأيضا من فقهائها يرشد إبنه ومولاه لأن يذهب إلى أبي سعيد الخدري ويسمع من
حديثه، كان يدل بعضهم إلى بعض ويرشد بعضهم إلى أن يذهب الناس إلى هذا
الصحابي لأن يأخذوا من حديثه، وذلك أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم
لم يستوعبه أحد من الناس ولم يكن حصل منه ذلك ، ولا يدعي ذلك ولا يجوز أن
يُدَّعى ذلك لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يحيط بها شخص من
الناس بعينه بحث لا يفوته شاردة ولا واردة منها إلا وقد كانت عنده فهذا لا
يدعيه أحد ولا يجوز أن يُدَّعى في أحد من الناس بل إن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلَّم ما حصل هذا لأحد منهم وما ادُعي هذا في أحد منهم فمن باب
أولى من يجيء بعدهم ولكن كما عرفنا هذا من أسباب الاختلاف التي وقعت، ولهذا
كان بعض من تبع سلف هذه الأمة يبلغه الحديث من طريق لا تثبت عنده، فيقول
بخلاف هذا الدليل الذي ، ولكنه يعلق به صحته ويقول إن صح قلت به وهو قولي،
فإن صح فهو قولي، هكذا جاء عن سلف هذه الأمة كما جاء ذلك عن الشافعي وعن
غيره، فإن الإمام الشافعي رحمه الله كثيرا ما يقول في عدد من الأحاديث، إن
صح الحديث قلت به، وقد جاء بعض أتباعه، ممن بلغه الحديث، فقال ، وقد صح
الحديث فهو مذهب الشافعي، وقد صح الحديث فهو مذهب الشافعي، أي المذهب الذي
علق به القول على صحته فإنه قد صح وإذاً فهو مذهبه، وقد قال الإمام الشافعي
رحمه الله، أنه أجمع المسلمون على أن من استبانة له سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلَّم لم يكن له أن يدعها لقول كائن من كان، هذه طريقتهم،
يجتهدون في معرفة الحق فقد يصيبه هذا المجتهد وقد يخطئه ولكنه كما عرفنا لا
يعدم الأجر أو الأجرين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إِذَا
اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابْ فَلَهُ أَجْرَانْ، وإذَا اجْتَهَدَ
فَأَخْطَأْ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدْ»، هكذا قال رسول الله عليه الصلاة
والسلام، وهذا يدلنا أنه ليس كل مجتهد مصيب، مصيب للحق، ليس كل مجتهد مصيب
للحق، فمن الناس من يصيبه ومنهم من يخطئ، ولكن من أصابه ضفر بأجرين ومن
أخطأه ضفر بأجر واحد، نعم يمكن أن يقال أن كل مجتهد مصيب يعني مصيب للأجر،
كل مجتهد مصيب للأجر مع التفاوت في الأجور، وأما إصابة الحق فإن هذا الحديث
واضع في أن هذا الاختلاف الذي يكون من قبل اختلاف التضاد فإن الحق يكون مع
واحد وغيره يكون على خلاف ذلك ولكن من أصاب ضفر بالأجرين ومن أخطأ ضفر
بالأجر الواحد، وهذه هي الطريقة المتبعة في القرن الأول وفي القرن الثاني
وهكذا كل يجتهد فيما بلغه من العلم ويبذل وسعه ويحصل وينتهي إلى ما ينتهي
إليه، ولكنه مأجور، وهذا ما يجب أن يُعتقد في حق السلف من هذه الأمة ممن
بعدهم من الصحابة ومن سار على منوالهم وسار على منهاجهم، أنه لا يعدم
الأجرين أو الأجر الواحد، ثم إن الواجب على طلاب العلم وعلى المنتمين إلى
العلم أن يوقروا هؤلاء العلماء الذين ساروا على منوالهم، يوقروهم بمحبتهم
وإمتلاء القلوب بمحبتهم وتعظيمهم واجلالهم التعظيم والاجلال اللائق بهم
وذكرهم بالخير والثناء عليهم وحمل ما يأتي منهم على أحسن المحامل واعتقاد
أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وأن من أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ منهم فله
أجر واحد وخطؤه مغفور، هذا هو الذي يجب في حقهم ولا يُتكلم فيهم إلا
بالخير، لا يتكلم فيهم بغير ذلك، لأن من تكلم فيهم بغير ذلك إذا كان على
سبيل الإضرار أو على سبيل الحط من شأنهم فإن هذا لا يضر المتكلم إلا نفسه،
أما إذا كان الكلام فيما يتعلق ببيان أحول العلماء وأحوال الرواة من الثقة
والعدالة ومن الصدق وغير ذلك من الصفات، فإن هذا أمر لابد منه، قد سلكه سلف
هذه الأمة.
وعلى أحد من سلف هذه الأمة في غير حق فإن هذا
لا يتضرر إلا منه إلا من فاه به ومن تكلم به، ومن أحسن ما جاء في هذا كلمة
لأبي جعفر الطحاوي في عقيدته المشهورة عقيدة أهل السنة والجماعة فإنه قال
رحمه الله في هذه العقيدة: ((وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من
اللاحقين، أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل ومن
ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل)) هذه كلمة عظيمة تبين لنا المنهاج الذي
ينبغي أن يسلكه طالب العلم في حق سلف هذه الأمة الذين أفنوا أعمارهم وبذلوا
قصار جهدهم في جمع العلم وتحصيله وتدوينه حتى صار أمامنا ميسراً ومهيئاً،
ليس علينا إلا أن نقرأ هذا الذي دونوه، وأن نقتطف من هذه الثمار المهيأة
الناضجة، التي هم أنعبوا أنفسهم في جمعها وفي سقايتها وفي رعايتها
والمحافظة عليها حتى وصلت إلينا جاهزة، ووصلت إلينا على هذه الصورة وعلى
هذه الهيئة الكاملة التي ليس علينا إلا أن نقرأ وأن نستفيد فمن حقهم علينا
أن نثني عليهم وأن نمدحهم وأن نحمدهم على ما حصل منهم وأن نذكرهم بالخير
وأن تكون ألسنتنا رطبة بذكرهم وأن تكون قلوبنا مليئة بحبهم وأن نستفيد من
علمهم وأن نعترف بفضلهم وبسبقهم إلى هذا الخير وبكونهم خلفوا لنا هذا
الميراث الذي علينا أن نحصر أن نكون من ورَّاثهم وأن نكون في ضمن الحلقات
المتصلة في هذا الميراث الذي هو ميراث النبوة التي تلقاه أصاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلَّم ومن جاء بعدهم على منوالهم.
إذن هؤلاء العلماء الذين أشرت إليهم وهم
الصحابة ومن بعدهم، هؤلاء هم العلماء الذين نعنيهم بأن يوقروا وأن يعظموا
وأن يثنى عليهم وأن يستفاد من علمهم وأن يذكروا بالخير وأن لا يذكروا بسواه
سواء كانوا من أهل الحديث أو من أهل الفقه كما قال الإمام الطحاوي رحمه
الله هذه الكلمة العظيمة: ((وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من
اللاحقين، أهل الخبر والأثر))، وهؤلاء هم أهل الحديث، ((وأهل الفقه
والنظر))، وهؤلاء هم الذين اشتغلوا بالفقه وفي تدوين مسائل الفقه، ((لا
يُذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل))، على غير سبيل
الواضع وعلى غير السبيل المستقيم لأنه انحرف عن الجادة، هؤلاء الذين بذلوا
جهودهم في جمع العلم وتحصيله وتدوينه ثم خلفوه لنا نتنكر لهم ونعيبهم
ونتنقصهم، هذا لا يسوغ ولا يجوز، بل الواجب علينا أن نثني عليهم وأن نمدحهم
وأن نستفيد من علمهم.
ثم كيف نستفيد من هذا العلم؟ ما هي طريقة
الاستفادة من هذا العلم، علم هؤلاء العلماء الذين علينا أن نوقرهم وأن نثني
عليهم، كيف نستفيد من علمهم؟
إن الاستفادة من علم هؤلاء أن نحرص على اقتناء
الكتب النافعة التي تحتوي هذا العلم الذي ورَّثوه والذي خلَّفوه، سواء كان
هذا العلم عن الشخص، هو الذي دونه وهو الذي جمعه أو أن علمه دونه غيره
وجمعه غيره ممن جاء بعدهم، فنستفيد من هذا العلم المهيأ سواء كان جمعه
مؤلفه أو جمعه غيره ممن جاء بعده، نستفيد من ذلك بأن نقتني هذه الكتب
النافعة وأن نحرص على الاستفادة منها وكيف نستفيد منها؟ إن من طرق
الاستفادة من هذه الكتب أن نقرأ مقدماتها وأن نعرف مصطلحاتها، لأن قراءة
المقدمات، مقدمات الكتب في الغالب يكون فيها توضيح للمصطلحات، وفيها بيان
للطرق والمناهج التي أرادها هؤلاء العلماء والتي قصدها هؤلاء العلماء في
تأليفهم، فإن من لا يقرأ هذه المقدمات ولا يعرف المصطلحات التي اشتملت
عليها هذه المقدمات قد يبحث عن الشيء في غير مضنته، قد يضن أنه يجد بغيته
في هذا الكتب، وهي لا توجد فيه لأنها لا تدخل تحت مصطلح صاحبه التي بينها
والتي أوضحها في كتابه، إذن قراءة المقدمات ومعرفة المصطلحات إذا كانت هناك
مصطلحات عُرفَت عن طريق الاستقراء، وعن طريق التتبع لعمل هذا المؤلف وصنيع
هذا المؤلف بمعرفة هذه المصطلحات يستفيد الإنسان من هذا الكتاب، وأما إذا
لم يعرف المصطلحات فإنه لا يستفيد وقد يبذل شيئا من الوقت في البحث في
كتاب، هذا الكتاب ليس مضنة لهذه الفائدة، وليس مضنة لهذا الشيء الذي يبحث
عنه الإنسان لأنه لا يدخل تحت اصطلاح الكتاب ولا يدخل تحت ما عناه وما قصده
المؤلف من هذا الكتاب. إذن معرفة المقدمات، هذه من أهم الطرق التي يستفيد
بها الإنسان من علم هؤلاء العلماء الذين دونوا هذا الميراث الذي هو ميراث
النبوة، ثم من أهم الاستفادة من هذه الكتب أن الإنسان عندما يقرأها يحرص
على تدوين الفوائد المهمة التي يمر بها يدونها عنده في مذكرات خاصة هذه
الفوائد تعتبر إذا لم يقيدها وإذا لم يدونها فإنها تضيع، تضيع عليه ولا
يعرف أين هي، فإذا كان الكتاب مكون من مجلدات كثيرة ثم يمر الإنسان بفائدة
فإنه إذا لم يدونه فإنه لا يستطيع الوصول إلى هذه الفائدة، ولا يستطيع
معرفة هذه الفائدة أين توجد إذا لم يدون المكان الذي وجدها فيه، هذا من أهم
ما يكون في الاستفادة من الكتب فمثل كتاب: ((فتح الباري)) مكون من ثلاثة
عشر مجلد، وفيه من الكنوز وفيه من الفوائد العظيمة، إذا مر الإنسان بهذه
الفوائد ولم يدونها فإنه قد يحتاج إليها في وقت من الأوقات ثم تضيع في هذا
البحر وفي هذا الخضم، ولا يتمكن من ذلك إلا بأن يقرأ أو يفتش في المضنات
وقد يحصلها وقد لا يحصلها، وقد يمضي عليه ساعات كثيرة في تحصيلها فقد
يحصلها ويكون ضفر بتعب وضيع على نفسه وقتا طويلا كان بإمكانه أن يستفيد لو
دون هذه الفائدة عندما مر بها في أول مرة، إذن هذا من أهم الطرق التي بها
يحصِّل الإنسان الفوائد من هذه الكتب.
ثم تخصيص أوقات، وقت الإنسان، لمطالعة بعض
الكتب النافعة، وشغل وقته فيها، هذا مما يحصل به العلم، ومما يستفيد به
الإنسان من علم العلماء السابقين الذين خلفوا لنا هذا التراث، والذين دونوا
لنا هذا التراث العظيم الذي ليس علينا إلا أن نقتطف هذه الثمار وأن نجني
هذه الثمار التي تعب غيرنا في جمعها، ونحن ليس علينا إلا أن نقرأ هذا الذي
جمعوه وهذا الذي خلفوه، ثم إن طالب العلم يستفيد من مختلف الكتب، لا يكون
همه أن يشتغل بكتب الحديث، ويغفل عن كتب الفقه أو عن الشروح التي تشتمل
مسائل الفقه، بل يكون الإنسان معنياً بهذا ومعنياً بهذا، معنياً بمعرفة
الدليل وبمعرفة الأسانيد وبمعرفة الرجال وبمعرفة الكيفية التي بها
يُتَوَصَّل إلى معرفة الحكم على الأحاديث وتبيين الصحيح من الضعيف، ثم في
نفس الوقت يحرص على ما يُسنتَبط من هذه الأحاديث وعلى الدرر الثمينة
والكنوز المخبأة في هذه الأحاديث التي لا يُضفر بها إلا عن طريق التأمل في
معانيها وفي سياقها، وكذلك أيضا في الوقوف على الكتب التي كتبها العلماء في
بيان فقه هذه الأحاديث وما يُستخرج منها وما يُستفاد منها فإن هذا من أهم
ما يكون لطالب العلم، أن يكون معنياً بمسائل الفقه ومعنيا بمسائل الحديث لا
يكون منحصرا في بعض التخصصات فيما يتعلق بمعرفة الرجال ومعرفة الأسانيد
ولكنه لا يعرف مسائل الأحكام الفقهية!!، وإذا عرض عليه مسائل فقهية يكون لا
خبرة له بها، وقد تكون مسائل يسيرة ومسائل واضحة لا ينبغي أن تخفى على مثل
هذا الطالب ولكن بسبب انشغاله عنها بعض الجوانب قضي عليه ذلك، ولكن يحرص
على أن يكون جامعا بين هذا وهذا، يحرص على الرواية ويحرص على الدراية، يحرص
على معرفة الأحاديث وعلى الفقه في هذه الأحاديث، وكذلك أيضا على الإطلاع
على كتب الفقه التي دونها الفقهاء في كتب المذاهب الأربعة وكذلك الكتب التي
جمعت [فقه التابعين وفقه أتباع التابعين،] فقه الصحابة فقه التابعين وفقه
أتباع التابعين يرجع إليها ويستفيد منها لأن هذا هو الطريق الذي يحصل به
العلم ويحصل به العلم النافع ويتمكن الإنسان فيه من الوصول إلى بغيته وإلى
ما ينشده ويريده، وأهم شيء في هذا تنظيم الأوقات لطالب العلم فإنه إذا نظّم
أوقاته وحصل ولو شيء قليل في كل يوم فإنه على ممر الأيام وعلى توالي
الأيام تكون حصيلته كبيرة وتكون حصيلته ضخمة لأن الشيء إذا جاء في كل يوم
ولو قل فإنه على ممر الأيام وعلى طول أيام السنة يحصل الإنسان الشيء الكبير
فلو أن الإنسان فقه في كل يوم مسألة وتمكن من معرفة حكم مسألة ودرسها وعرف
النهاية فيها يكون بعد مضي سنة حصل على ثلاث مئة وأربع وخمسين مسألة أو
أقل أو أكثر، وإنما الإهمال والتفريط وضياع الأوقات في غير طائل هذا هو
الذي يفوت العلم وهذا الذي يضيع معه العلم ثم إن العلم لا يمكن ضبطه ولا
يمكن الاحتفاظ به إلا بمذاكرته وشغل الأوقات به فإن هذا هو الذي يبقي عليه
وأما إذا أهمل وإذا غفل عنه وإذا اشتغل عنه في غيره فإنه يضيع ويتلاشى
ويضمحل وإنما الإبقاء عليه يكون بمذاكرته وعمارة الأوقات في مدارسته وكونه
حديث المجالس ... عندما يلتقي طلاب العلم يكون حديثهم في مسألة من مسائل
العلم أو في مسائل فإن هذا يستفيد من هذا و هذا يستفيد من هذا وهذا يدل هذا
على ما خفي على هذا، وقد روى البخاري في صحيح وهو أول حديث بكتاب الرقاق
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسْ، الصِّحَةُ وَالْفَرَاغْ»، فهذا الفراغ هذا الوقت إذا ما
قتله الإنسان وشغله الإنسان لتحصيل العلم ومذاكرته فإنه يكون وبالا عليه
إذا ما شغله في غير طائل، إذا ما شغله طالب العلم في هذا المجال فإنه لا
يحصل العلم وإذا كان عنده شيء من العلم فإنه لابد وأن ينتهي ويتلاشى لأن
تحصيل العلم إنما يكون بالاشتغال فيه وبشغل الأوقات فيه والوقت ثمين فإذا
لم يحفظ فيما يعود على الإنسان بالخير فإنه يضيع على صاحبه ولا يستفيد منه
صاحبه بل قد يتضرر منه فيما إذا عمره بما يعود عليه بالمضرة وفيما إذا شغله
بما يعود عليه بالمضرة، وإذا فطالب العلم يحرص على شغل وقته في تحصيل
العلم وتدوينه وعلى مذاكرته بين طلاب العلم عندما تحصل اللقاءات فيما بينهم
في أي مناسبات، لا يكون ذلك خاصاً بمجالس العلم ومجالس الدروس إنما إذا
التقوا في الطرقات أو التقوا في المناسبات أو في أي مكان يكون شغلهم الشاغل
هو البحث عن العلم والذاكرة في العلم وهذا هو الذي ينميه ولهذا يقول بعض
العلماء يوصي ابنه في المحافظة على العلم وفي تحصيله وفي الإبقاء عليه
وبيان ميزته وفضله على غيره وأنه يزيد وينمو بمذاكرته والاشتغال به وأنه
ينقص بإهماله وعدم مذاكرته، يقول في وصيته لابنه:
وكنز لا تخشى عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث
كنت
هذا هو العلم، ((وكنز لا تخشى عليه لصاً))،
المال يُسرق ويذهب ولكن العلم الذي يحفظه الإنسان وحافظ عليه هذا مع
الإنسان ولا يخشى عليه ولا يذهب إلا بذهاب الإنسان، لا يذهب إلا بذهاب
الإنسان، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلَّم: «إن الله لا يقبض العلم
انتزاعاً ينتزعه، ولكن يقبض العلم بموت العلماء »، يقول هذا الشاعر:
وكنز لا تخشى عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث
كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إذا عليه شددنا
((يزيد بكثرة الإنفاق منه)) يعني الإنسان كلما
يذاكر به وكلما يتحدث به، فكلما يذكره فإنه يثبت ويستقر ولكن إذا لم يذاكر
به ولم يكن حريص المجالس مع طلاب العلم فإن الذي عند الإنسان على ممر
الأيام يُنسى ويتلاشى ويضمحل هذا هو الواقع، وهذه هي الحقيقة وإذا نظرنا
إلى قلت علمنا في هذا الزمان وعدم تمكننا من التحصيل فإن من أسباب ذلك هو
عدم شغل الأوقات في التحصيل وعدم المذاكرة في هذا العلم الذي نحصله وإذا
أردنا لأنفسنا أن نحصل العلم فإن هذه الطريق الواضحة في تحصيله والإبقاء
عليه.
وأسأل الله عزّ وجل أن
يوفقنا جميعا لما فيه رضاه وأن يوفقنا لتحصيل العلم النافع والعمل به وأن
يجعلنا هداة مهتدين إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، وصلى الله وسلَّم وبارك
على خير خلقه وأفضل أنبيائه ورسله نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
المصدر شريط بعنوان:
توقير العلماء والاستفادة من علمهم ، للشيخ
عبد المحسن بن حمد العباد البدر المدرس بالجامعة الإسلامية سابقاً حفظه
الله تعالى، وهو موجود في تسجيلات مؤسسة دار ابن رجب للإنتاج والتوزيع،
بالمدينة النبوية.
أعدَّ هذه المادة: أخوكم محمد الجزائري
و
نقلته لكم والدال على الخير كفاعله
_________________
روضة الأنوارالإسلامية
http://toqaa.ahlamontada.net/montada-f72/
اكواد برامج اشهار تطوير المنتديات
http://toqaa.ahlamontada.net/montada-f163/