يقول
ابن تيمية رحمه الله
: ((
فقولهم : المنبثق من الأب الذي هو مسجود له وممجد ، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب
القائمة به ، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات ، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقاً
لكان علمه وقدرته ، وسائر صفاته منبثقة منه ، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في
الحياة فإن الكلام يخرج من المتكلم ، وأما الحياة فلا تخرج من الحي ، فلو كان في
الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن ، ويقولون : هي العلم والكلام أو
النطق والحكمة أولى بأن تكون من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام ، وقد قالوا
أيضاً : إنه مع الأب مسجوداً له وممجد ، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجوداً لها
، وقالوا : هو ناطق في الأنبياء وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء ، بل هذا
كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء ، أو صفة ملك من الملائكة
كجبريل ، فإذا كان هذا منبثقاً من الأب ، والانبثاق الخروج ، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ
من هذا . وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلاً من وجوه ، منها : أن
الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض ، وليس جوهراً قائماً بنفسه ، وهذا عندهم حي مسجود
له ، وهو جوهر . ومنها : أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس ، ولا
قائماً بها وحياة الرب صفة قائمة به . ومنها : أن الانبثاق خصوا به روح القدس ، ولم
يقولوا في الكلمة إنها منبثقة ، والانبثاق لو كان حقاً لكان الكلام أشبه منه
بالحياة ، وكلما تدبر أجهل العقلاء كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض
والفساد ما لا يخفى على العباد ، ووجد فيه من مناقضة التوراة والإنجيل ، وسائر كتب
الله ما لا يخفى على من تدبر هذا وهذا ، ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا
يخفى إلا على معاند أو جهول ، فقولهم متناقض في نفسه ، مخالف لصريح المعقول ، وصحيح
المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين ))
.
المسيح والروح
القدس :
أثبتا ـ
بالأدلة الصريحة ، أن الروح القدس هو جبريل ، وجبريل هو
الروح القدس ، وعليه فإن زعم النصارى حلول الروح القدس على المسيح وحلوله على
الملهمين من أتباعه دون سواهم باطل ، وبيان ذلك
:
1 ـ أنه قد ثبت
بالأدلة الصريحة ، أن الروح القدس هو ملاك الله الذي ينزل بالوحي الإلهي ، وهو الذي
يؤيد الله به أنبياءه ورسله ، ومن يشاء من عباده وأوليائه
الصالحين
2ـ وأهل التوراة
وهم اليهود يعلمون أن روح القدس هو جبريل عليه السلام ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح
قدسه ، فتحول لهم عدواً وهو حاربهم، لذلك حرصوا على سؤال الأنبياء عن الروح الذي
يأتي بالوحي من السماء ، فإن كان جبريل أعرضوا عن النبي ولم يسمعوا دعوته
،
3ـ وقد سبق
الحديث في بيان عداوتهم له وعن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الذي يأتيه
بالوحي ، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبريل ، قالوا : ذاك الذي ينزل
بالحرب وبالقتال ، ذاك عدونا ، لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك
، فأنـزل الله تعالى : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك
)) إلى قوله : (( فإن الله عـدو للكافرين ))
.
4 ـ أن جبريل
عليه السلام هو روح الله الذي جاء في الإنجيل أن مريم :
(( وجدت
حبلى من الروح القدس )) ، وهو العلامة التي عرف بها يحيى عليه السلام
المسيح أنه يرى : (( الروح القدس نازلاً ومستقراَ عليه )) ،
وهو الذي أخبر الله عنه أنه أيد به المسيح عليه السلام
،
5ـ قال تعالى :
(( وآتينا عيسى ابن مريم البينان وأيدناه بروح القدس ))
،
6ـ وقوله تعالى:
(( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك
بروح القدس )) ،
7ـ وهو الذي بأمر الله نفخ الروح في مريم ، قال
تعالى : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها مـن روحنا وجعـلناها وابنها آية للعالمين
)) .
8ـ وهو أيضاً الذي نزل بالوحي على النبي صلى
الله عليه وسـلم ، قال تعـالى: قل نزله روح القدس من ربك
بالحق )) ،
9ـ وقوله تعالى :
(( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين
)) ، وغير ذلك من الأعمال التي أوكل الله بها جبريل عليه السلام ، كما
تقدم بيان ذلك .
ـ
أن الروح القدس يسمى أيضاً روح الله ، ويسمى الروح ـ
بـدون إضافة ـ ورد ذكر ذلك في التوراة والإنجيل والقرآن
1. ففي التوراة
أنه يهب القوة : (( فكان عليه روح الرب وقضى
لإسرائيل وخرج للحرب )) ،
2ـ وجاء أيضاً : (( فحل عليه روح الرب فشقه كشق الجدي وليس
في يده شيء
3ـ وجاء
أيضاً : ((
وحل عليه روح الرب فنزل إلى أشقلون وقتل منهم ثلاثين رجلاً وأخذ سلبهم ))
،
وأنه يهب الحكمة والفهم والمعرفة : ((
وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة ))
،
وأنه يهـب قلباً جديداً وروحاً جديداً : ((
وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جـديداً في داخـلكم ... وأجعل روحي في داخلكم
وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها))
،
وغير ذلك من النصوص
.
4. كما جاء في
الإنجيل أن الروح القدس مؤيد للمسيح في دعـوته ومعجزاته ،
إذ جاء فيه : (( وأما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس ،
وكان يقتاد بالروح في البرية )) ،
5ـ وجاء فيه : (( ورجع يسوع بقوة
الروح إلى الجليل... وكان يعلم في مجامعهم 6ـ
ويقول المسيح عليه السلام : (( روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر
المساكين ، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب ))
،
7ـ وأن الروح هو
الذي أيد المسيح في إجراء المعجزات ، ففي سفر أعمال الرسل
: (( يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال
يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه ))
،
8ـ فالروح القدس
في هذه النصوص هي القوة التي أيَّد الله بها المسيح ـ عليه السلام ـ والتي استطاع
بها صنع المعجزات وشفاء الأمراض ، وهذه القوة العلوية التي تسمى الروح القدس ليست
قوة مادية منظورة ، وليست إلهاً قائماً بذاته ـ كما يعتقد النصارى ـ وإنما هي قوة
روحية قدسية من لدن الله تعالى ، كما أيد بها من سبقه من أنبيائه ورسله وأوليائه
الصالحين ،
9ـ وهذا هو
المعنى الذي دل عليه قول المسيح عليه السلام :
(( إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله
)) ، فالمسيح ـ عليه السلام ـ يشفي الأمراض ويخرج الشياطين بروح الله
،
10ـ أي بقوة من
الله، ولا يتصور أحد أن روح الله التي يقصدها المسيح هنا هي الله ذاته ، أو أنها جزء من الله .
11ـ كما جاء في
الإنجيل أن المسيح ـ عليه السلام ـ أخبر تلاميذه أن روح الله يهب القوة والتأييد
فقال : (( وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد ،
روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه )) ،
وأنه يهب العلم : (( وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي
فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم )) ، وأنه الذي يلهم للحق :
(( لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم ))
، وأنه يجب الإيمان به وعدم الكفر به : (( لذلك أقول لكم كل خطية
وتجديف يغفر للناس ، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس ، ومن قال كلمة على ابن
الإنسان يغفر له ، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا
في الآتي )) .
12ـ فهذه النصوص
من التوراة والإنجيل تفيد أن حلول الروح القدس ليس خاصاً بالمسيح ـ عليه السلام ـ
ولا بمن يزعم النصارى أنه يلهمهم ويحل عليهم، وإنما الروح هو الذي يؤيد
الله به من يشاء من عباده ، وهذا دليل على أن الروح ليس إلهاً كما يعتقد النصارى ،
وإنما هو ملاك من ملائكة الله ، وهو جبريل عليه السلام .
13. كما جاء في
القرآن الكريم ما يصدق ما جاء في الكتب الإلهية السابقة عن حقيقة الروح القدس ،
وصفاته ، والأعمال الموكولة إليه ـ كما سبق الاستشهاد بهذه الآيات في مواضع
سابقة،
14ـ وكما ثبت في
السنة النبوية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لحسان
بن ثابت : (( إن روح القدس معك ما دمت نافح عن نبيه ))
،وقوله : (( اللهم أيده بروح القدس ))
،
15ـ ويستشهد ابن
تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا الحديث على عدم خصوصية المسيح بتأييد الروح القدس له
دون سواه ، فيقول : (( فهذا حسان بن ثابت واحد من المؤمنين لما نافح عن
الله ورسوله ، وهجا المشركين الذين يكذبون الرسول أيده الله بروح القدس وهو جبريل
عليه السلام ،
16ـ وأهل الأرض يعلمون أن محمداً صلى الله عليه
وسلم لم يكن يجعل اللاهوت متحداً بنا سوت حسان بن ثابت ، فعلم أن إخباره بأن الله
أيده بروح القدس لا يقتضي اتحاد اللاهوت بالنا سوت ، فعلم أن التأييد بروح القدس
ليس من خصائص المسيح ، وأهل الكتاب يقرون بذلك
،
17ـ وأن غيره من
الأنبياء كان مؤيداً بروح القدس ، كداود وغيره ، بل يقولون : إن الحواريين كانت
فيهم روح القدس ، وقد ثبت باتفاق المسلمين واليهود والنصارى أن روح القدس يكون في
غير المسيح ، بل في غير الأنبياء )) .
كما بين ابن
تيمية ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر قول داود عليه السلام :
1ـ
وروح
قدسك لا تنزعه مني ))
،
عدم خصوصية الروح القدس بالمسيح عليه السلام فقال : ((
هذا دليل على أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس ، فعلم بذلك أن روح
القدس لا تختص بالمسيح ،
2ـ وهم يسلمون
ذلك ، فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير موضع أن روح القدس حلت في غير المسيح ،
في داود ، وفي الحواريين ، وفي غيرهم ، وحينئذٍ فإن كان روح القدس هو حياة الله ،
ومن حلت فيه يكون لاهوتاً ، لزم أن يكون إلهاً ، لزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت
وناسون كالمسيح ، وهذا خلاف إجماع المسلمين والنصارى واليهود ، ويلزم من ذلك أن
يكون المسيح فيه لاهوتيان : الكلمة ، وروح القدس ، فيكون المسيح من الناسون :
أقومين أنقوم الكلمة ، وأقوم روح القدس ، وأيضاً فإن هذه ليست صفة لله قائمة به
،
3ـ فإن صفة الله
القائمة به ، بل وصفة كل موصوف لا تفارقه وتقوم بغيره ، وليس في هذا أن الله اسمه
روح القدس ، ولا أن حياته اسمها روح القدس ، ولا أن روح القدس الذي تجسد منه المسيح
، ومن مريم هو حياة الله سبحانه وتعالى ،
4ـ وأنتم قلتم : إنَّا معاشر النصارى لم نسمه بهذه الأسماء من ذات أنفسنا ،
ولكن الله سمى لاهوته بها ، وليس فيما ذكرتموه عن الأنبياء أن الله سمى نفسه ، ولا
شيئاً من صفاته روح القدس ، ولاسمي نفسه ولا شيئاً من صفاته ابناً ، فبطل تسميتكم
لصفته التي هي الحياة بروح القدس، ولصفته التي هي العلم بالابن .
5ـ فأنتم تزعمون
أن المسيح مختص بالكلمة والروح ، فإذا كانت روح القدس في داود عليه السلام
والحواريين وغيرهم بطل ما خصصتم به المسيح ، وقد علم بالاتفاق أن داود عبد الله عز
وجل ، وإن كانت روح القدس فيه ، وكذلك المسيح عبد الله وإن كانت روح القدس فيه ،
فما ذكرتموه عن الأنبياء ، حجة عليكم لأهل الإسلام ، لا حجة لكم ))
.
6ـ ويدل أيضاً على عدم خصوصية الروح القدس
بالمسيح ـ عليه السلام ـ ولا بغيره ، أن النصارى يقرون أن
الروح القدس ناطق في الأنبياء ، إذ قالوا في قانون إيمانهم المقدس : ((
الناطق في الأنبياء )) ، ويسمى ـ في زعمهم ـ حياة الله ، وإذا كان كذلك
فهذا باطل ،
7ـ إذ يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
(( وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره ، وروح القدس الذي تكون في
الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به ، ولو كان روح القدس الذي في
الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلهاً معبوداً قد اتحد نسوته
باللاهوت كالمسيح عندكم ، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسيتا ولاهوتاً
، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقاً في الأنبياء كان كل منهم
فيه لاهوت وناسون كالمسيح ، وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع
إثباتكم لغيره ما ثبت له ))
8ـ وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر :
(( وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله
، فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة ، فلو استعمل في حياة الله أيضاً لم يتعين أن
يراد بها ذلك في حق المسيح ،
9ـ فكيف ولم
يستعمل في حياة الله في حق المسيح ، وأما أن يدعوا أن
المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين ، فإن قالوا ذلك لزمتم أن يكون
اللاهوت حالاً في جميع الأنبياء والحواريين ، وحينئذٍ فلا فـرق بين هـؤلاء وبين
المسيح )) .
وبهذا يتبين
حقيقة الروح القدس وأنه جبريل ـ عليه السلام ـ وبطلان اعتقاد النصارى إلوهيته ،
وبطلان اعتقادهم خصوصية المسيح بحلول الروح القدس عليه أو على غيره دون سواهم
.
_________________
أخوكم في الله
فارس الاسلام
مدير منتدى فرسان التوحيد
http://www.forsanaltwhed.com/vb