شفقة الآباء ورحمتهم بأولادهم
لا شك أن
الإنسان العاقل يهمه صلاح أولاده واستقامتهم ، ويتمنى سلامة فطرهم ، ويسره
تمسكهم بالحق وسيرهم على الصراط السوي ، وتخلقهم بمعالي الأخلاق وفضائل
الأعمال ، وعملهم بتعاليم الدين الصحيح ، ويستاء ويشق عليه متى رآهم
منحرفين ضالين قد خالفوا سنة الله تعالى وشرعه ، وتنكبوا الطريق السوي ،
وارتكبوا المآثم وفعلوا الجرائم .
ولقد جبل الله الوالدين على محبة
الأولاد والشفقة عليهم والرحمة بهم ، وإيثارهم بالمصالح والملذات في هذه
الحياة الدنيا ، والخوف عليهم من أسباب العطب والهلاك ، فقد حكى الله تعالى
عن نوح عليه السلام نداءه لابنه الذي عصى عليه ، فقال تعالى: ﴿ وَنَادَى
نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا
تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ سورة هود الآية 42 ]. وبعد أن خرج الابن عن
طاعة أبيه وتمرد عليه ، لم يغفل عنه بل دعا ربه أن ينجيه بقوله: ﴿ رَبِّ
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ﴾ [ سورة هود الآية
45 ] . فهو يتذكر أن ربه تعالى وعده بنجاة أهله بقوله: ﴿ قُلْنَا احْمِلْ
فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ [ سورة هود الآية 40 ] . فظن أن ابنه من أهله الذين
وعد الله بنجاتهم ، ولكن الله تعالى عاتبه بقوله: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ ﴾ [ سورة هود الآية 46 ] أي: الذين وعدناك بنجاتهم . فعرف من هذا
شفقة الوالد على ولده ولو كان عاصيا له وخارجا عن طواعيته . وهكذا ما حكى
الله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام- مما يدل على شفقته وخوفه على ولده ،
ففي مقام الطلب والرجاء لما قال الله تعالى له: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ [ سورة البقرة الآية 124 ] .
فلم يغفل عن ذريته لما منحه الله هذه الإمامة التي هي جعله قدوة وأسوة
لمن بعده من الناس الذين هداهم الله للإسلام ، فلما وعده ربه بهذه الإمامة
لم يغفل عن ذريته؛ لحرصه على صلاحهم ، وأهليتهم لأن يكونوا قدوة للناس في
أمر الدين الصحيح . وهكذا حكى الله تعالى عنه دعاءه لربه بقوله: ﴿ رَبِّ
اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ [ سورة إبراهيم الآية
40 ]. فما غفل عن ذريته بل أشركهم مع نفسه في هذه الدعوة الصالحة ، بأن
يجعله مقيما للصلاة ، محافظا عليها ، وكذا ذريته؛ لما لها من أثر بليغ في
صلاح الذرية واستقامتهم . وكل هذا دليل كمال الشفقة والرقة والرحمة للولد ،
ورجاء أن يستقيموا على الخير ، ويسلكوا الصراط السوي المتمثل في إقامة
الصلاة ، وما تؤثره من ثمرات وأعمال صالحة .
وهكذا في مقام الخوف ،
فقد حكى الله تعالى عنه عليه السلام قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [ سورة إبراهيم الآية 35 ]. فلم يقتصر في طلب
النجاة من الشرك على نفسه ، بل أشرك بنيه ، فطلب نجاتهم من عبادة الأصنام؛
لما رأى من ضلال الكثير- كأبيه وقومه- بعبادة تلك الأخشاب والأحجار التي
ينحتونها ، ثم يظلون لها عاكفين ، تقليدا لآبائهم وأسلافهم . وهكذا مدح
الله تعالى إسماعيل -عليه السلام- بقوله: ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ﴾ [ سورة مريم الآية 55 ]. والأمر منه يستدعي
الطلب والحرص على التطبيق منهم للصلاة التي هي عماد الدين ، والتي ذكر أنها
تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والزكاة وهي حق المال .
وقال الله تعالى: ﴿
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾ [ سورة البقرة الآية
132 ] إلى قوله: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ سورة
البقرة الآية 133 ]. فهذا كله من تمام الحرص والشفقة على القريب الأدنى قبل
البعيد من أنبياء الله تعالى ورسله ، وهم القدوة والأسوة لمن بعدهم ،
فالأمر لهم يعم كل من دان بدينهم من أتباعهم . وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله
تعالى- عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [ سورة طه الآية 132 ]. عن ابن أبي حاتم بسنده عن
زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يوقظ أهله لصلاة
التهجد بالليل ، ويتلو هذه الآية الكريمة . فإن ظاهرها يعم صلاة الفرض
والنفل .
ويدخل في الأهل: الأولاد والخدم والزوجات ومن تحت كفالة
الإنسان ، كما ذكروا ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ ﴾ [ سورة التحريم الآية 6 ] يعني: أنقذوهم وخلصوهم من
الكفر والبدع وكبائر الذنوب وصغائرها ، مما يسبب العقوبة الأخروية بدخول
النار التي وقودها الناس والحجارة . فوقايتهم تستدعي الحرص على تربيتهم ،
وتهذيب أخلاقهم ، وتلقينهم في الصغر ما يعرفون به ربهم ودينهم ونبيهم وما
يلزمهم أن يدينوا به في هذه الحياة ، وبيان الحسنة والسيئة ، وأسباب كل
منهما . فالوالد والولي الناصح يبذل جهده في تقويم موليه ، وفي نصحه
وإرشاده ، وتحريضه على الخير ، وتحذيره من العاقبة السيئة؛ ليكون سببا في
نجاته وفلاحه ، كما أن الله تعالى قذف في قلبه الرحمة التي تستجلب الرقة
والشفقة في الدنيا ، فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- : أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قبل الحسن ، فقال الأقرع بن حابس : إن لي عشرة من الولد ما
قبلت واحدا منهم . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « إنه من لا يرحم
لا يرحم »( )، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قدم ناس من الأعراب
فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ لكنا والله ما نقبل . فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: « أو أملك أن كان الله نزع منكم الرحمة » وفي لفظ: « أو أملك
أن نزع الله من قلبك الرحمة »( )، وفي حديث أسامة بن زيد أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- لما رفع إليه ابن بنته ، ونفسه تقعقع ، ففاضت عيناه -صلى
الله عليه وسلم- وقال: « هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم
الله من عباده الرحماء »( ) فهذه الرحمة التي جعلها الله تعالى في قلوب
الآباء يكون من آثارها الشفقة عليهم ، والحرص على إيصال الخير إليهم ، ودفع
الشر عنهم ، سيما وقت الطفولية والحاجة ، وتستمر حتى الموت غالبا . فمتى
كان يحب لهم الصحة والسلامة والبعد عن العطب والضرر فإن عليه أن يحرص على
تقويم أولاده وتهذيب أخلاقهم ، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في الدار الآخرة
ويوصلهم إلى رضوان ربهم سبحانه وتعالى .
_________________
أخوكم في الله
فارس الاسلام
مدير منتدى فرسان التوحيد
http://www.forsanaltwhed.com/vb