يلجأ أهل الأدب إلى استخدام (الحبكة الدرامية) في عرض حقيقة ما يجرى خلال احداث الراوية المراد تمثيلها. وتلك الحبكة تمثل العقدة المفصلية، أو قمة الأحداث، التي يبدأ العرض صعوداً للوصول إليها.
والأمراض بالأصل مسرحيات متكررة لنفس القصص الدرامية، لها أبطالها المعروفون وممثلوها الثانويون، وتتشكل من فصول متوالية، تتغير فيها الديكورات باختلاف الأعضاء التي تُصاب بالمرض. وما هو مطلوب من الطبيب، لتشخيص المرض ومتابعة المعالجة، هو ملاحظة وفهم المشاهد تلك، كي تتضح القصة وتفهم الأحداث الجارية داخل جسم المريض.
وخشبة المسرح، في العرض المتكرر للقصة، تختلف باختلاف الشخص الذي تجري بداخله الأحداث تلك. وهذا الفهم المسرحي للأحداث لا يختص بالأطباء فقط، بل الواحد منّا بحاجة إلى تلك المتابعة للأحداث في فهمه لعرض كيفية حصول الأمراض.
والجزء الأهم بالمتابعة والفهم هو تلك «الحبكة الدرامية» للمشكلة الجارية. ولذا فإن فهم الطب لآلية ظهور واستمرار المرض، ومن ثم ظهور تداعياته وكل السيناريوهات التالية، محكوم بمدى معرفتنا بكامل تفاصيل القصة، وخاصة أجزاء «الحبكة الدرامية» فيها.
ودعونا نستعرض المسرحية الطبية التالية، التي تقوم بدور البطولة فيها «الدهون الثلاثية»، وتُروى يومياً بشكل درامي محزن. ولنحاول معرفة كيف بالإمكان تحويلها إلى قصة من نوع آخر، أي قصة ممتعة.
دراما الدهون الثلاثية
تقول رابطة القلب الأميركية إن الهيئة الكيميائية الأكثر وجوداً للمركبات الدهنية، في الجسم وفي الطعام، هي الدهون الثلاثية Triglycerides، أو ما تُترجم أحيانا بـ«الغلريسليد الثُلاثي».
وتضيف أنه في الجسم، على وجه الخصوص، إما أن تكون تلك الدهون الثلاثية في هيئة حرة، تسبح في الدم منفردة ضمن تشكيل محتويات «الناقلات البروتينية الدهنية» الحاملة على متنها مركب الكولسترول ومركب الدهون الثلاثية بنسب متفاوتة، وإما ان تكون حبيسة التراكم في خلايا الأنسجة الشحمية fat tissue وغيرها.
وبهذا تمهد الرابطة في عرضها لأهمية الدهون الثلاثية، طرح الإشكاليات الأهم في شأن تلك النوعية من الدهون وهي:
ـ أن ما يُوجد في دم الإنسان، أو أنسجة جسمه، من دهون ثلاثية ليس مصدره ما نتناوله من الشحوم أو الزيوت ضمن وجبات طعامنا فحسب، بل ثمة مصدر آخر ومهم لتكوّن دهون ثلاثية بالجسم، وهو قيام الجسم بصناعة تلك الدهون الثلاثية من مصادر أخرى للطاقة، مثل المواد الكربوهيدراتية.
ـ حينما يتناول أحدنا وجبة من الطعام، ولا يتمكن جسمه من الاستهلاك المباشر لكل ما فيها من مصادر للطاقة، أي من الكربوهيدرات أو البروتينات أو الدهون، فإن الجسم سيلجأ لا محالة إلى تحويل كميات منها إلى دهون ثلاثية. والأصل أن تحصل هذه العملية بشكل طبيعي في الجسم، كي يتم خزن كمية معتدلة من الطاقة، على هيئة دهون ثلاثية في خلايا الأنسجة الشحمية، لاستخدامها في الفترات التي يتناول الإنسان فيها الطعام.
ـ ثمة هرمونات تُنظم عملية استخراج الدهون الثلاثية من مستودعات خزنها في الأنسجة الشحمية، وبالتالي توفير وقود لإنتاج خلايا الجسم للطاقة التي تحتاجها في عملها.
ـ حالة ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية في الدم، عامل مستقل في التسبب بأمراض شرايين القلب والدماغ وغيرهما.
ـ هناك حالات مرضية مستقلة يصحبها ارتفاع في نسبة الدهون الثلاثية في الدم.
وبهذه العناصر الخمسة، تحصل مشاكل الدهون الثلاثية في الجسم، وتحصل أيضاً تداعيات تلك المشاكل. والمرحلة الحاسمة في قصة الدهون الثلاثية هي أن زيادة تناول طاقة الطعام، سيُؤدي إلى زيادة تكوين الدهون الثلاثية. وبالتالي إما أن تُستهلك ويتخلص الجسم منها، أو تتراكم لتترسب في الأنسجة الشحمية، لتبدأ مشاكلها.
ارتفاع الدهون الثلاثية
وما تُؤكده المصادر الطبية في نشراتها الحديثة، أن ارتفاع الدهون الثلاثية عامل مستقل في التسبب بمرض تصلب الشرايين، أي مثل ارتفاع ضغط الدم وغيره.
وهو ما يعني أن ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية في الدم دليل على احتمال الإصابة بأمراض شرايين القلب والدماغ، وخاصة عند تدني نسبة الكولسترول الثقيل.
وغالباً ما يُصاحب وجود بعض عوامل خطورة ارتفاع الإصابة بأمراض الشرايين، وجود ارتفاع في نسبة الدهون الثلاثية، مثل السمنة ومتلازمة الأيض metabolic syndrome، أو ما تسمى بمتلازمة التمثيل الغذائي. وهي المتلازمة المرضية المتميزة بوجود سمنة البطن، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع نسبة الدهون الثلاثية، واضطرابات نسب أنواع الكولسترول في الدم، وزيادة مقاومة أنسجة الجسم للاستجابة لمفعول الأنسولين، وبالتالي ارتفاع نسبة سكر الدم مع ارتفاع نسبة هرمون الأنسولين.
كما قد ينجم ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية في الدم، عن عدم انضباط نسبة سكر الدم لدى مرضى السكري، أو في حال وجود تدن في معدل إفراز هرمون الغدة الدرقية hypothyroidism، أو عند الإصابة بأمراض مزمنة تتأثر فيها وظائف الكبد أو الكلى.
وكذلك قد يُؤدي تناول أدوية معينة إلى ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية في الدم. وهناك حالات وراثية نادرة يصحبها الارتفاع ذاك، إلا أن تناول الكحول، يظل أحد الأسباب الرئيسية في شأن ارتفاع الدهون الثلاثية.
الدهون الثلاثية والكولسترول
الدهون الثلاثية شيء مختلف تماماً عن الكولسترول، من ناحية التركيب الكيميائي ومن ناحية الوظيفة في الجسم. ومما يطول شرحه تفصيل الاختلاف الجذري في ما بين تركيب الدهون الثلاثية، والمكون من ارتباط ثلاثة أحماض شحمية مع مركب الغليسرين، وبين تركيب الكولسترول. إلا أن الجانب المهم يتعلق بأمرين: الأول، هو اختلاف الدور الفعلي لكل منهما في الجسم.
واستفادة الجسم من الدهون الثلاثية مُركزة في إنتاج الطاقة. بينما يستفاد من الكولسترول، كمادة شمعية، في بناء جدران الخلايا الحية، وفي إنتاج الهرمونات الجنسية وغيرها، وفي تراكيب أجزاء مهمة من الجهاز العصبي، أي أن الكولسترول لا يحرقه الجسم ولا يستخدمه في إنتاج الطاقة.
لكن ما يجمع الكولسترول مع الدهون الثلاثية هو أحد خصائصها الفيزيائية، وهو عدم قدرتهما على الذوبان في الماء. ومن هنا حصل الربط بينهما، لأن وجودهما في سائل الدم، أي الوسيط الناقل، يتطلب وضعهما في «مغلفات ناقلة». وما يصنع بالدرجة الرئيسة هذه «المغلفات الناقلة» هو الكبد.
وهي ناقلات مكونة من البروتينات والدهون lipoproteins. وثمة في الدم أنواع عدة منها، مثل البروتين الدهني الخفيف (LDL) ، الذي يُسمى اختصاراً بالكولسترول الخفيف الضار. وهو ما يحمل كميات الكولسترول من الكبد كي تترسب في جدران الشرايين. وهناك البروتين الدهني الثقيل (HDL)، الذي يُسمى اختصاراً بالكولسترول الثقيل الحميد.
وهو ما يحمل الكولسترول من الشرايين ليُعيده إلى الكبد. وهناك أيضاً البروتين الدهني الخفيف جداً (VLDL)، وهو ما يحمل الدهون الثلاثية. وثمة أنواع أخرى لا مجال لعرضها.
ووفق ما نصت عليه لجنة الخبراء في تقريرها الثالث في البرنامج القومي الأميركي للتثقيف بالكولسترول، فإن الطبيعي أن تكون نسبة الدهون الثلاثية في الدم أقل من 150 ملغم لكل ديسيلتر من الدم. وما بين 150 و199 ملغم/ ديسيلتر هو ارتفاع على الحافة Borderline high. وما بين 200 و500 ملجم/ ديسيلتر هو ارتفاع، وما فوق 500 ملجم/ ديسيلتر ارتفاع شديد.
ويُجرى التحليل بأخذ عينة من دم الوريد، بعد إتمام المرء صيام 12 ساعة عن الأكل أو الشرب، ما عدا الماء. وهناك طريقة منزلية لإجراء تحليل الدهون الثلاثية، بأخذ قطرة من دم الأصبع. إلا أنه لا يُوجد رأي واضح لرابطة القلب الأميركية حول مدى الاعتماد على ذلك في متابعة حالات ارتفاعه.
استراتيجيات معالجة ارتفاع الدهون الثلاثية
هناك أربعة جوانب لمعالجة ارتفاع الدهون الثلاثية، وللوقاية من ارتفاعها وهي:
ـ المعالجة الطبية السليمة للحالة المرضية أو السلوكية التي تسببت بارتفاع الدهون الثلاثية. ـ العودة إلى تناول الوجبات الصحية بالكميات والمحتوى المناسب لحالة الإنسان. وهو ما يُسمى مجازاً اتباع الحمية الغذائية.
ـ ممارسة الرياضة البدنية، بانتظام في التكرار والقدر.
ـ استخدام أدوية لخفض الدهون عند وصفها من قبل الطبيب. وهناك أسباب مرضية أو سلوكية، تُؤدي إلى التسبب بارتفاع الدهون الثلاثية. وهنا يعتبر النجاح في السيطرة عليها، أول خطوة في تحقيق ضبط لهذا الارتفاع. وتحديداً، العمل على خفض ارتفاع نسبة سكر الغلوكوز في الدم لدى مرض السكري أو مرضى اضطراب نسبة سكر الدم.
وتعويض الجسم لهرمون الغدة الدرقية لدى مرضى كسل الغدة الدرقية. والعمل على تخفيف الوزن، والامتناع عن تناول الكحول، خاصة في حال وجود ارتفاع في الدهون الثلاثية مع زيادة تراكم الشحوم في الكبد. وتخفيف تأثيرات فشل الكلى أو الكبد على الجسم.
ولو كان ارتفاع الدهون الثلاثية أحد التأثيرات الجانبية لتناول بعض الأدوية، فمن الأفضل بحث الطبيب عن بدائل لها. وممارسة الرياضة البدنية، من نوع تمارين الإيروبيك الهوائية قد تكون هي الحل.
وهذه التمارين المُمارسة يومياً تعمل زيادة استهلاك الدهون الثلاثية، وبالتالي تخفيف ارتفاعها. والأهم أنها أيضاً ترفع من معدل نسبة الكولسترول الثقيل الحميد. ومعلوم أن ضرر ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية أكبر عند انخفاض نسبة الكولسترول الثقيل.
وتحت الإشراف الطبي، وبالإضافة إلى اتباع الإستراتيجيات العلاجية الأخرى، يكون اللجوء إما إلى تناول أدوية خفض الكولسترول الضار من فئة ستاتين statins، مثل ليبيتور أو زوكور أو ليبوستات أو غيرها، أو اللجوء إلى إضافة أدوية فئة فايبريت fibrates، مثل لوبيد، أو من فئة أحماض النيكوتين nicotinic acids، مثل نياسين، أو اللجوء إلى تناولهما معاً، مع ملاحظة احتمال حصول الآثار الجانبية على الكبد والعضلات.
الحمية الغذائية لخفض الدهون الثلاثية
باعتبار أن الدهون الثلاثية هي من أنواع الشحوم والزيوت، فإن الكثيرين يعتقدون أن مصدر ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية في الدم هو كثرة تناول الشحوم أو الزيوت.
وعليه يعتقد أولئك أن خفض تناولهم للشحوم والزيوت هو الأفضل في سبيل خفض نسبة الدهون الثلاثية في الدم لديهم. لكن هذا ليس صحيحاً، بل ما تشير إليه المصادر الطبية المعنية بصحة القلب هو أن المصدر الغذائي الرئيسي والأهم في التسبب بارتفاع الدهون الثلاثية في الدم هو كثرة تناول الكربوهيدرات، أي السكريات.
وعليه فإن الخطوة الغذائية الأهم في التعامل مع الدهون الثلاثية هو وجبات منخفضة المحتوى من النشويات والسكريات، وذات كمية سعرات حرارية (كالوري) أقل من المعتاد. وتحديداً تقليل تناول السكر العادي، لأن تناوله يرفع بشكل سريع نسبة سكر الدم، وبالتالي يرتفع بشكل مفاجئ إنتاج البنكرياس للأنسولين.
وكل من ارتفاع نسبة سكر الدم وارتفاع الأنسولين في الدم، يُسهمان في ارتفاع تكوين الدهون الثلاثية. وضرورة انتقاء تناول دهون صحية، أي من الزيوت النباتية غير المشبعة، وخاصة كما يُشير الباحثون من مايو كلينك، الابتعاد عن تناول الشحوم الحيوانية في اللحوم الحمراء، والحرص على تناول تلك الأنواع الأحادية، كما في زيت الزيتون أو زبدة الفول السوداني أو زيت كانولا.
هذا بالإضافة إلى الاهتمام بتناول زيوت أوميغا-3، كما في زيوت الأنواع الدهنية من الأسماك، كالسردين والسلمون والماكريل. وتلخص الرابطة الأميركية للقلب نصائحها الخاصة بالعمل على تخفيف حدة ارتفاع الدهون الثلاثية في العناصر التالية:
ـ لو كان وزن جسمك أكثر من الطبيعي، قلل كمية طاقة الكالوري (السعرات) في وجبات غذائك اليومية، لتصل إلى وزن طبيعي. وهو ما يشمل الكمية المتناولة من الدهون والكربوهيدرات والبروتينات.
ـ قلل تناول الدهون المشبعة في الشحوم الحيوانية، وتناول الكولسترول. وتوقف عن تناول الدهون المتحولة.
ـ لاحظ أنه حتى تناول كميات قليلة من الكحول يسبب ارتفاعا كبيرا في نسبة الدهون الثلاثية في الدم. ودور الكحول في رفع الدهون الثلاثية بالدم لا علاقة له بمقدار كمية الكحول المتناولة.
ـ مارس الرياضة البدنية، لمدة نصف ساعة في غالبية أيام الأسبوع.
ـ توجه إلى تناول لحوم الأسماك، المحتوية على أوميغا-3، والزيوت النباتية الأحادية، مثل زيت الزيتون. وتجنب تناول اللحوم الحمراء المحتوية على الدهون المشبعة.