أيها الإخوة في الله- ها هو رمضان قرب مجيئه بنوره وعطره، وخيره وطهره، يجيئ ليربي في الناس قوة الإرادة ورباطة الجأش، ويربي فيهم ملكة الصبر، ويُعودُهم على احتمال الشدائد، والجَلد أمام العقبات ومصاعب الحياة. وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يهنئ أصحابه عند مجيئ رمضان ويبشرهم ويقول لهم: «أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين وفيه ليلة هي خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» (أخرجه أحمد والنسائي عن أبي هريرة وفي صحيح الجامع برقم:55)... وفي رواية عند الترمذي والبيهقي وابن حبان عنه أيضاً: «وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة».
فرمضان مدرسة تربوية يتدرب بها المسلم المؤمن على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيء، والتسليم لحكمه في كل شيء، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيء، وترك ما يضره في دينه أو دنياه أو بدنه من كل شيء، ليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعاً عن كل ما لا ينبغي بتدربه الكامل في هذا الشهر المبارك، ليحصل على تقوى الله في كل وقت وحين، وفي أي حال ومكان، وذلك إذا اجتهد على التحفظ في هذه المدرسة الرحمانية بمواصلة الليل مع النهار على ترك كل إثم وقبيح، وضبط جوارحه كلها عما لا يجوز فعله... لينجح من هذه المدرسة حقاً، ويخرج ظافراً من جهاده لنفسه، موفراً مواهبه الإنسانية وطاقاته المادية والمعنوية لجهاد أعدائه فحري بهذا الشهر أن يكون فرصة ذهبية، للوقوف مع النفس ومحاسبتها لتصحيح ما فات، واستدراك ما هو آت، قبل أن تحل الزفرات، وتبدأ الآهات، وتشتد السكرات... حري بأن يكون فرصة للتقوى وذلك لِما يسر الله- تعالى- فيه من أسباب الخيرات، وفعل الطاعات، فالنفوس فيه مقبلة، والقوب إليه والهة. ولأن رمضان تصفد فيه مردة الشياطين. فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان، وفي رمضان تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما أعظمها من بشارة، لو تأملناها بوعي وإدراك لوجدتنا مسارعين إلى الخيرات، متنافسين في القربات، هاجرين للموبقات، تاركين الشهوات، متخذين من رمضان فرصة للتقوى، وليكن حالنا فيه حال من يقول:
رمضانُ أقبل قم بنا يا صاح *** هــذا أوانُ تبتلٍ وصـــلاح
واغنم ثوابَ صيامه وقيامه *** تسعد بخيرٍ دائمٍ وفـــــلاح
نعم فرمضان فرصة للتقوى؛ ليصبح العبد من المتقين الأخيار، ومن الصالحين الأبرار. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تعليل لفرضية الصيام؛ ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العظمى. وهي تقوى الله وهى التي سأل أميرُ المؤمنين عمرُ- رضي الله عنه- الصحابيَ الجليل؛ أُبيَ بن كعب- رضي الله عنه- عن معنى التقوى ومفهومها؟ فقال يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى.. قال: فما صنعت؟ قال: شمرتُ واجتهدت.. أي اجتهدتُ في توقي الشوك والابتعاد عنه، قال أُبي: فذلك التقوى.
إذن فالتقوى حساسيةٌ في الضمير، وشفافيةٌ في الشعور، وخشيةٌ مستمرة، وحذرٌ دائم، وتوق لأشواكِ الطريق؛ طريقِ الحياة الذي تتجاذبُه أشواكُ الرغائبِ والشهوات، وأشواكُ المخاوفِ والهواجس، وأشواكُ الفتنِ والموبقات، وأشواكُ الرجاءِ الكاذب فيمن لا يملكُ إجابةَ الرجاء، وأشواكُ الخوف الكاذب ممن لا يملكُ نفعاً ولا ضراً، وعشراتٌ غيرُها من الأشواك هذا هو مفهوم التقوى.. فإذا لم تتضح لك بعد فاسمع إلى علي- رضي الله عنه- وهو يعبر عن التقوى بقوله: "هي الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتنزيلُ، والقناعةُ بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرحيل". هذه حقيقة التقوى، وهذا مفهومها فأين نحن من هذه المعاني المشرقةِ المضيئة؟.. لقد كان المجتمعُ الإسلاميُ الأول مضربَ المثل في نزاهتهِ، وعظمةِ أخلاقه، وتسابقِ أفرادهِ إلى مرضاةِ ربهمِ جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وكانت التقوى سمةً بارزة في محيا ذلكِ الجيلِ العظيم الذي سادَ الدنيا بشجاعتهِ وجهاده، وسارت بأخلاقهِ وفضائلهِ الركبان مشرقاً ومغرباً، فقد كان إمام المتقين عليه الصلاة والسلام قمةً في تقواه وورعهِ، وشدةِ خوفهِ من ربهِ العظيمِ الجليل، فكان يقومُ الليل يصلي ويتهجد حتى تفطرتْ قدماه الشريفتان، وكان يُسمعُ لصدره أزيزٌ كأزيزِ المرجل من النشيجِ والبكاء، وهو الذي غُفر له ذنبه ما تقدم وما تأخر.
وأما صحبهُ المبجل، وخليفته العظيم أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فكان يقول: "يا ليتني كنت شجرةً تعضدُ ثم تؤكل!!" وكان له خادمٌ يأتيه بالطعام، وكان من عادةِ الصديق أن يسأله في كل مرة عن مصدرِ الطعام؛ تحرزاً من الحرام!! فجاءه خادمُه مرةً بطعامه، فنسي أن يسألَه كعادته فلما أكلَ منه لقمة قال له خادمُه: لمَ لم تسألني يا خليفةَ رسولِ الله كسؤالكِ في كلِ مرة؟ قال أبو بكر: فمن أين الطعامُ يا غلام؟ قال: دَفعه إليَّ أناسٌ كنتُ أحسنتُ إليهم في الجاهلية بكهانةٍ صنعتُها لهم، وهنا ارتعدتْ فرائصُ الصديق، وأدخلَ يده في فمــه، وقاء كلَّ ما في بطنهِ وقال: "واللهِ لو لم تخرجْ تلك اللقمة إلا مع نفسي لأخرجتها"، كل ذلك من شدةِ خوفه وتقواه وتورعهِ عن الحرام، وأما خوفُ عمر رضي الله عنه وشدةِ تقواه فعجبٌ من العجب، سمع قارئاً يقرأُ قولَه تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:13] فمرض ثلاثاً يعـودهُ الناس. بل إنه قرأ مرةً قولَه تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] فمرض شهراً يعودُه الناسُ مريضاً، وأما عليٌ- رضي الله عنه- فكان يقبض لحيته في ظلمة الليل ويقول: يا دنيا غُري غيري أليَّ تزينتِ أم إليَّ تشوقتِ طلقتك ثلاثاً لا رجعةَ فيهن زادُك قليل وعمرُك قصير، وخرج ابن مسعود مرة في جماعة فقال لهم: ألكم حاجة؟! قالوا: لا؛ ولكن حبُ المسيرِ معك!! قال: اذهبوا فإنه ذلٌ للتابع، وفتنةٌ للمتبوع.
وإذا ذهبنا إلى غير الخلفاء الراشدين المكرمين، فها هو هارون الرشيد الخليفةُ العباسيُ العظيم الذي أذلَّ القياصرة وكسرَ الأكاسرة والذي بلغت مملكته أقاصي البلاد شرقاً وغرباً يخرج يوماً في موكبهِ وأبهته فيقول له يهودي: "يا أمير المؤمنين: اتق الله"!! فينـزل هارونُ من مَركبه ويسجدُ على الأرض للهِ ربِ العالمين في تواضعٍ وخشوع، ثم يأمرُ باليهودي ويقضي له حاجته، فلما قيل له في ذلك!! قال: لما سمعت مقولتَه تذكـرتُ قولَه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] فخشيت أن أكون ذلك الرجل، وكم من الناس اليوم من إذا قيل له اتق الله احمرتْ عيناه، وانتفختْ أوداجه، غضباً وغروراً بشأنه، قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: "كفى بالمرء إثماً أن يقال له: اتق الله فيقول:عليك نفسَك!! مثلكُ ينصحنُي!!
إذن فيوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى، جمعهم اللهُ بعد فرقة، وأعزهم بعد ذلة، وفُتحت لهم البلاد ومُصرت لهم الأمصار كل ذلك تحقيقاً لموعودِ الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] فليكن هذا الشهر بداية للباس التقوى؛ ولباس التقوى خير لباس لو كانوا يعلمون...قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
وقال تعالى: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55].
وصدق من قال:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى *** تجرد عُريانا وإن كان كاسيا
وخيرُ خصال المـرءِ طـاعةُ ربه *** ولا خيرَ فيمن كان لله عاصيا
ثم اعلم أن رمضان فيه الصوم والصوم ينهي عن فعل المحرمات؛ فإن الله- تعالى- قد نهى الصائم عن الأكل والشرب والوقاع في نهار رمضان، وجعل ذلك مفسداً للصوم، فيتأكد على المسلم أيضاً أن يترك المحرمات في نهار صومه وفي ليالي شهره، وذلك لأن الله الذي حرّم عليك في نهار رمضان أن تأكل وأن تشرب؛ مع كون الأكل والشرب من الشهوات النفسية التي تتناولها النفس بطبعها والتي تعيش عليها وتموت بفقدها، فإن الله- تعالى- حرم عليك محرمات أخرى هي أشد إثماً وأشد ضرراً وليست بضرورية كضرورة الطعام والشراب، وقد ورد في ذلك كثير من الآثار نذكر بعضها:
1- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب ولا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني امرؤٌ صائم» (أخرجه البخاري: 1904 في الصوم. باب: "هل يقول إني صائم إذا شتم؟" ومسلم: 1151 في الصيام، باب: "فضل الصيام"). والصخب هو: رفع الصوت بالكلام السيئ. والرفث: هو الكلام في العورات، والكلام فيما يتعلق بالنساء ونحو ذلك. أما الفسوق: فهو الكلام السيئ الذي فيه عصيان وفيه استهزاء وسخرية بشيء من الدين أو من الشريعة، ونحو ذلك. فالصوم ينهي صاحبه عن هذه الأشياء. وكأنه يقول إن صيامي ينهاني عن هذا الصخب- فإن الصوم ينهى عن المأثم، ينهى عن الحرام- فيقولك كيف أترك الطعام والشراب- الذي هو حلال- وآتي بما هو محرم في كل الأوقات؟
2- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (أخرجه البخاري: 1903 في الصوم، باب: "من لم يدع قول الزور"). فالله- تعالى- ما كلفك أن تترك الطعام والشراب إلا لتستفيد من هذا الترك، فتترك الرفث، وتترك الفسوق، وتترك قول الزور، وتترك المعاصي المتعلقة بالنساء وبالجوارح، فإن لم تفعل ذلك ولم تستفد من صيامك فالله- تعالى- يرده عليك ولا يجزيك على عملك.
3- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر» (أخرجه ابن ماجة: 1690، وأحمد في المسند: 2/373، 441).
ولا شك أن الصوم الذي هذه آثاره لا ينتفع به صاحبه ولا يفيده؛ فإن الصوم الصحيح يجادل عن صاحبه ويشهد له يوم القيامة ويشفع له عند الله. وفي الحديث: «أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»، فإن لم يحفظ العبد صيامه لم يستفد منه ولم يؤجر عليه.
يقول بعضهم: "إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ وإن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ". فلا بد أن يكون على الصائم آثار الصيام، كما روي عن جابر- رضي الله عنه- أنه قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الغيبة والنميمة، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".
وبالجملة فالصوم الصحيح يدعو صاحبه إلى ترك المحرمات، فإن المعصية إذا سولت للإنسان نفسه أن يقترفها رجع إلى نفسه، وفكّر وقدر ونظر واعتبر، وقال مخاطباً نفسه: كيف أقدم على معصية الله وأنا في قبضته وتحت سلطانه، وخيره عليَّ نازل، وأنا أتقرب إليه بهذه العبادة؟ ومن الذين لم يستفيدوا من صيامهم: أولئك الذين يسهرون على تعاطي الدخان المحرم الذي هو ضار بكل حالاته ووجوهه، فلا شك أنهم لم يستفيدوا من صيامهم ذلك أن الصوم تبقى آثاره، وهؤلاء لا أثر للصيام عليهم.
فالصائم الذي امتنع عن شرب الدخان طوال نهاره، وكذلك عن تعاطى الأشياء المحرمة- والعياذ بالله- ولكنه تناول ذلك في ليله، فهذا الفعل دليل على أنه لم يستفد من صومه، وإنما صومه عليه وبال.
فالصيام الصحيح هو الذي يزجر صاحبه عن المحرمات؛ فإذا نادته نفسه، وزينت له أن ينظر بعينيه إلى شيء من العورات؛ كأن ينظر إلى صور عارية في أفلام ونحوها، أو ينظر إلى النساء المتبرجات رجع إلى نفسه وقال: كيف أمتنع عن الحلال الذي حرمه الله- في النهار- كالأكل والشرب، وآتي شيئاً محرماً تحريماً مؤبداً في آن واحد؟ وهكذا إذا دعته نفسه إلى أن يتناول شيئاً من المكاسب المحرمة كرشوة أو رباً أو خديعة في معاملة، أو غش، أو ما أشبه ذلك رجع إلى نفسه، وقال: لا يمكن أن أجمع بين فعل عبادة وفعل معصية. فإذا رجع إلى نفسه تاب من فعله وأناب. فهذه بعض أمثلة في أن الصائم صحيح الصيام يستفيد من صيامه في ترك المعاصي؛ سواءً كانت تلك المعاصي محرمة تحريماً مؤقتاً كالطعام والشراب، أو تحريماً مؤبداً كالخمر والميسر والقمار والدخان والرشوة والغش والربا والزنا والملاهي ونحوها، فإن هذه تحريمها أكيد. فالمسلم يتفكر في أن الذي حرم هذا هو الذي حرم ذاك فيمتنع بصيامه عن كل ما حرم الله- عز وجل-. فإذا كان صومك كذلك فأنت من الذين يستفيدون من صيامهم، ومن الذين يترتب على صيامهم الحسنات، ويترتب عليه المغفرة، فقد أكّد النبي- صلى الله عليه وسلم- أن مغفرة الذنوب تتحقق بالصوم إيماناً واحتساباً كما في الحديث المشهور: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفرله ما تقدم من ذنبه» (أخرجه البخاري: 38 في الإيمان، باب: "صوم رمضان احتساباً من الإيمان")، فشرط فيه أن يكون صومه إيماناً واحتساباً، ولا شك أن معنى الإيمان هو: التصديق بأنه عبادة لله، فرضه على العباد، وأما الاحتساب فهو: احتساب ثوابه عند الله، وذلك يستدعي مراقبة ربه في كل الأحوال.
ذكر بعض العلماء: أن الصيام سر بين العبد وبين ربه، حتى قال بعضهم: إنَّه لا يطلع عليه أحد من البشر أو لا تكتبه الحفظة. فيمكن للصائم أن ينفرد في زاوية من الزوايا أو في مكان خفي، ويتناول المفطرات بحيث لا يراه أحد، ولكن المؤمن الذي يصوم إيماناً واحتساباً ويعبد ربَّه ويعلم أن الله يراقبه، كما قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218-220] يعلم بأن ربه يراه حيث كان، فمثل هذا لا يتناول شيئاً من المفطرات ولو اختلى بها، ولو كان جائعاً فإنه يصبر على الجوع ولا يصبر على غضب ربه. هذا معنى كون الصيام سراً خفياً لا يطلع عليه إلا الله، وهذا معنى كونه إيماناً، يعني ما حمله على صيامه إلا الإيمان؛ ترك شهواته إيماناً بالله، إيماناً بأنه هو الذي فرضه، وإيماناً بأنه هو الذي حرم عليه هذه الشهوات وهذه الأشياء.
فالصيام الصحيح هو الذي تظهر عليك آثاره، وتحفظه في كل حالاتك، وتتذكره في كل الأوقات ولا تخدشه بشيء من المنقصات؛ فإذا فعلت ذلك، فإنَّ صومك يترتب عليه مغفرة الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «غفر له ما تقدم من ذنبه»، فلا شك أن هذا العمل الذي هو الصيام لما كانت هذه آثاره كان محبباً للنفوس الزكية، النفوس السليمة، النفوس الصحيحة النقية، التي تسعد بهذا الصيام وتزكو وترتقي. وأما النفوس المتطرفة الغاوية فإنها تتثاقل هذا الصوم، وتتمنى انقطاعه، وانتهاء أيامه لذلك ترى الفرق الكبير بين المؤمن وغيره، المؤمن حقاً هو الذي يتمنى بقاء هذا الشهر، وأن تطول أيامه، كما رُوي في الأثر ولا يصح مرفوعاً: «لو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان» فانظر وفرّق. هناك قوم من السلف الصالح، ومن أولياء الله وأصفيائه سنتهم كلها رمضان وكان بعضهم يصوم، ويكثر من الصوم، ولا يفطر إلا مع المساكين، وإذا منعه أهله أن يفطر مع المساكين لم يتعش تلك الليلة. وكان بعضهم يطعم أصحابه أنواع الأطعمة ويقف يروحهم وهو صائم. فهؤلاء هم الذين يتمنون أن يطول وقت الصوم، وما يزيدهم رمضان إلا اجتهاداً في الطاعة والعبادة عما كانوا عليه في رجب، وفي شعبان وما بعده وفي سائر السنة، فأعمالهم كلها متقاربة. أما من لم تصل حقيقة هذا الصوم إلى نفوسهم ولم تتأثر به قلوبهم، ولم يتربوا التربية السليمة، فإنهم يستثقلونه، ويتمنون انقضاءه في أسرع وقت، وأن تنتهي أيامه، ويفرحون بكل يوم يقطعونه منه، فما هكذا الصوم الصحيح بل الصائم المؤمن التقي هو الذي يتمنى بقاء هذه الأيام. فكثير ما نسمع من بعض ضعفاء النفوس أنه يتمنى أن يذهب رمضان، وإذا ما هلّ هلال شوال فرحوا واستبشروا، كأنهم ألقوا عنهم ثقلاً. فنحن نوصي إخواننا أن يقيسوا أنفسهم، وينظروا مدى تأثرهم بهذه العبادة، فإذا رأوا أن نفوسهم قد ألفتها، وقد أحبتها، وأنهم قد استفادوا منها فائدة مستمرة في ليلهم ونهارهم، وفي شهرهم وشهورهم، فإن ذلك دليل على حسن آثاره على هذا العبد، وإذا لم يتأثروا، بل رجعوا بعد رمضان إلى تفريطهم وإهمالهم رجعوا إلى المعاصي والذنوب التي كانوا يقترفونها قبل رمضان، فإن هؤلاء لم يستفيدوا من صيامهم، ولم يكن رمضان لهم فرصة للتقوى, ويوشك أن يكون صومهم مردوداً عليهم.
و لهذا كان السلف رحمهم الله يهتمون اهتماماً كبيراً في قبول صيامهم؛ فقد اشتهر عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يقبله منهم. يحرصون على العمل فيعملونه، فإذا ما عملوه وأتموه، وقع عليهم الهمّ، هل قبل منهم أو لم يقبل منهم؟ ورأى بعضهم قوماً يضحكون في يوم عيد، فقال: إن كان هؤلاء من المقبولين، فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا من المردودين، فما هذا فعل الخائفين. أخي: إن للمعاصي آثار بليغة في قسوة القلوب! ورمضان شهر التجليات.. وموسم القلوب الرقـيقة.. فإذا لم تعد له أخي قلباً رقيقاً خالياً من أدران المعاصي لعلك لا تدرك فيه التقوى ومن لا يدركها فى رمضان فلعله لا يدركها والله المستعان.
أخي: لا تجعل أيام رمضان كأيامك العادية! بل فلتجعلها غرة بيضاء في جبين أيام عمرك! أخي: احرص على نظافة صومك كحرصك على نظافة ثوبك. فاجتنب اللغو، والفحش، ورذائل الأخلاق.. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليس الصيام من الأكل والشرب؛ إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل:إني صائم» (رواه ابن خزيمة والحاكم/ صحيح الترغيب:1068).
فلا تكن أخي من أولئك الذين وصفهم النبي صلى- الله عليه وسلم- بقوله: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر» (رواه الطبراني/ صحيح الترغيب: 1070).
أخي: اجعل من صومك مدرسة تهذب فيها نفسك وتعلمها محاسن الأخلاق وتربيها على الفضيلة.. حتى إذا انقضى رمضان أحسست بالنتيجة الطيبة لصومك.. وكنت من المنتفعين بهذا الشهر المبارك.
قال الحسن البصري- رحمه الله-: "إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون!".
أخي: أرأيت إذا رحلت إلى قضاء حاجة من حاجاتك فسافرت لها ثلاثين يوماً!! وبعد بلوغ نهاية سفرك إذا بك ترجع صفر اليدين من حاجتك! ليذهب تعبك ونصبك في أدراج الريح! كيف أنت وقتها؟!... كيف أنت وقتها؟!... كيف أنت وقتها؟!.
أخي: قليل أولئك الذين يهيأون أنفسهم قبل رمضان لتستقبل تلك الأيام المباركة راغبة راهبة... فكن من هؤلاء القليل!.
أخي: وأنا أطوي هذه الأوراق، فلتسأل الله معي أن يطوي لنا الأيام حتى ندرك رمضان.. وأن يجعلنا من المرحومين بصيامه.
أخي: رزقني الله وإياك صدق الصائمين.. وإقبال القائمين.. وخصال المتقين.. وحشرني وإياك يوم النشور في زمرة المنعمين.. وبلغني وإياك برحمته ورضوانه درجات المقربين.. وحمداً لله تعالى دائماً بلا نقصان.. وصلاة وسلاماً على النبي وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان.. والحمد لله رب العالمين.