بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فنحن أمة الإسلام آخر الأمم مجيئاً، وأحدث الرسائل السماوية عمراً، إلا أن الله تعالى بمنه وكريم عطائه جعل نبينا عليه الصلاة والسلام سيد الأنبياء وأمتنا أكثر الأمم الواردة للجنة عدداً وأرفعها قدراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا». الحديث متفق عليه
وقال عليه الصلاة والسلام:«والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر». متفق عليه.
وفضلنا الله تعالى على جميع الأمم قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
وجعلنا شهوداً على سائر الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
إن مفهوم تفضيل أمة الإسلام لس لانتمائها لعرق معين، ولا لاستخدامها للغة بعينها، ولا لتميز أفرادها شكلاً ورئياً، لكنه اصطفاء الله تعالى لدين الإسلام، ليكون الدين عنده ولايقبل من أحد ديناً سواه، قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ } [آل عمران: 19]
من تمسك بالإسلام وعمل بأوامر القرآن، واتبع سيد الأنام، نال الخيرية المذكورة، وفاز بالحسنة الموعودة، ومن شك في المنهج وغلبه هواه أو انساق وراء شهواته وحاد عن الطريق فهو أبعد ما يكون من أهل تلك الكرامة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهم يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم أصح الأمم عقولاً وفطراً وأعظمهم علماً، وأقربهم في كل شيء إلى الحق، لأنهم خيرة الله من الأمم، كما أن رسولهم خيرته من الرسل، والعلم الذي وهبهم إياه والحلم والحكمة أمر لا يدانيهم فيه غيرهم".
وقد روى الإمام أحمد في سنده من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل».
فظهر أثر كرامتها على الله سبحانه في علومهم وعقولهم وهم الذين عرضت عليهم علوم الأمم قبلهم وعقولهم وأعمالهم ودرجاتهم فازدادوا بذلك علماً وحلماً وعقولاً إلى ما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من علمه وحلمه.
ولأن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من أقصر الأمم عمراً وأقلها أمداً يسر الله تعالى لها مواسم تضاعف فيها الأجور وترفع فيها الدرجات.وتقال فيها العثرات وشهر رمضان الذي تعيش الأمة نشوة استقباله من أعظم تلك الفرص، ومن أجل تلك المواسم يكثر فيه العتقاء، ويرتقي فيه الأصفياء ويقال فيه الأشقياء.
كم أعتقت فيه من الرقاب؟ وكم عوفيت نفوس بسببه من العقاب؟
قال الإمام مالك في الموطأ: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر.
فاللهم لك الحمد على نعماتك، ولك الشكر على كريم عطائك وأفضالك.
في استقبال رمضان..
روى الطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى ال له عليه وسلم صعد المنبر فقال: «آمين آمين آمين».
ثم قال: «أتاني جبريل فقال يا محمد من أدرك أحد أبويه في الكبر، فمات فلم يدخل الجنة، فدخل النار، فأبعده الله فقيل آمين، فقلت آمين».
أي من أدرك أحد أبويه في كبرهما فلم يوصله بره بهما وإحسانه إليهما إلى أن يغفر الله له فهو حقيق أن يبعده الله تعالى من رحمته ببركة دعاء جبريل وتأمين محمد صلى الله عليه وسلم
«ثم قال: يا محمد: من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فدخل النار، فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين، ثم قال: يا محمد: من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فمات فدخل النار فأبعده الله: قال آمين، فقلت: آمين».
وروى الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة».
الله أكبر... كأن المغفرة في رمضان ينالها كل أحد، ولا يحرم منها إلا من حرمه الله تعالى...
وهو والله كذالك.. قال سعيد عن قتادة كان يقال: "من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه.. تعظيماً لشأن المفرط وليس تقنيطاً من رحمة العظيم المقسط".
نعم... كيف لا يكون شهر رمضان شهر الرحمة والمغفرة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين». متفق عليه.
وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة».
وعند الطبراني: «إن الجنة لتزخرف وتنجد من الحول إلى الحول لدخول رمضان، فتقول الحور: يا رب اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجاً تقر أعيننا بهم، وتقر أعينهم بنا».
نعم... كيف لا يكون هذا الشهر العظيم من أسباب المغفرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر». رواه مسلم.
كيف لا يكون رمضان شهر الرحمة والمغفرة والحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه». متفق عليه.
ويقول: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه».متفق عليه.
ويقول: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه». متفق عليه.
وأخبر الصادق المصدوق عن الله تعالى أنه قال: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك». رواه أحمد وأصله في الصحيح.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: "الصيام لله، لا يعلم ثواب عمله إلا الله عز وجل" رواه الطبراني
وقال سفيان بن عيينة: "إن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم بل يدخره الله عنده للصائم، حتى يدخله به الجنة".
وقال بعض السلف: "طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره".
ويعطى الصائم في الجنة ما شاء الله من الطعام والشراب والنكاح قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة: 24]
قال مجاهد وغيره: "نزلت في الصائمين".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: «إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله تبارك وتعالى إلا أتاك الله خيراً منه». رواه أحمد.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم..». وفي رواية: «من دخل منه شرب ومن شرب منه لم يظمأ أبداً». رواه أحمد.
روى الإمام أحمد في سنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تعطها أمة قبلهم، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله تعالى كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، ويصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة».
قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟
قال: «لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله».
وشهر رمضان هو شهر القرآن، الذي تكرم الله به على البشرية ورفع به شأن الإنسانية، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]
قال ابن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنهما: "أنزل القرآن في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام".
أوليس من حرم كل هذا الفضل محروماً؟!
أوليس الذي انقضى عنه الشهر ولم ينل الحظ الوافر من المغفرة والرحمة مغبوناً؟!
أبشروا يا معاشر المسلمين، لهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت، وأبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقة، وأقدام إبليس وذريته من أجلكم موثقة.. فأين المشمرون؟
رمضان..مدرسة التقوى..
ها قد جاءكم رمضان.. شهر القرآن والتوبة والإنابة..
لنجعل منه منطلقاً لتوبة نصوح خالصة مع الله، علها تزيل ذنوبنا، وتمحو خطايانا، وسيئاتنا..
لما سلسل الشيطان في شهر رمضان وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر.
يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي... يا شموس التقوى والإيمان اطلعي... يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي... يا قلوب الصائمين اخشعي... يا أقدام المجتهدين اسجدي لربك واركعي... يا عيون المجتهدين لا تهجعي... ويا سماء النفوس أقلعي... يا بروق الأشواق للعشاق المعي... يا خواطر العارفين ارتعي... يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي...
لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار، ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها: { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88]
لبرز لهم التوقيع عليها: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92]
إن من لم يتب في ر مضان، فمتى سيتوب؟!
من لم يعد إلى الله تعالى في رمضان، فمتى سيعود؟!
من لم يحافظ على الصلوات والواجبات في رمضان، فمتى؟!
من لم يقلع عن المعاصي والآثام في رمضان، فمتى إذاً؟!
إن الأعمار تفنى، والأيام تطوى، وبين غمضة عين وانتباهتها ينتقل الإنسان من ظهر الأرض إلى بطنها.
فالتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار.. فهذا شهر رمضان شهر التوبة والاستغفار..
قال بعض السلف: "وأنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، وهي حل عقدة الإصرار، فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود.
قال كعب: "من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود".
من يرد ملــك الجـــــنان *** فليدع عنه التواني
وليقم في ظلمــة الليل *** إلى نور القرآن
وليصل صــــوماً بصــــوم *** إن هذا العيش فاني
كان مطوف يقول في دعائه: "اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا".
وصدق والله.. فمن عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا، وكان غاية أمله أن يطمع في العفو، ومن كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة.
يارب عبـــدك قــد أتـــاك *** وقد أساء وقد هفا
يكفـــــيـه منــك حيــــاؤه *** من سوء ما قد أسلفا
حمـــــل الذنــــوب على *** الذنوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك *** من عقابك ملحفا
يارب فـــاعف وعـــافــــه *** فلأنت أولى من عفا
هذا شهر المذنبين، هذا شهر المفرطين، هذا شهر المسرفين..
أين أنتم يا مسلمون: أما تعتبرون أما تتذكرون إن في تضمين قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: 186]
بين آيات الصيام عبرة للمعتبرين وآية للمذنبين ودلالة على فضل العمل الصالح، والدعاء في هذا الشهر الكريم وهو مظنة القبول والعفو والغفران.
وفي المسند وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم».
الحديث وعند أبي داود عن عبدالله بن عمرو وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة».
قال عبيد الله بن أبي مليكة: سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي".
لقد فهم سلف الأمة خطاب رب الأنام، وعرفوا قيمة الزمان وحرمة الأيام، فأعطوا للتاريخ نماذج يعجر اللسان عن ذكرها ويعجب البليد من فهمها، فهذا الشافعي رحمه الله كان له في رمضان ستون ختمة، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وكا ن مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
أما آن لنا أن نفهم الحكمة كما فهموها، ونعمل الصالحات كما عملوها، وننال المنزلة التي نزلوها؟!
أيها المبارك... لنجعل من رمضان مدرسة نتعلم منها الصبر، فرمضان شهر الصبر كما روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود.«والصوم نصف الصبر».
كما ورد به الخبر عنه صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي.
لنتعلم فيه الصبر على طاعة الله من صيام وصلاة وقيام وقراءة للقرآن وصدقة.. فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يترجم لنا ذلك واقعاً ملموساً في حياته، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها.
وللصدقة في رمضان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن ففي الصحيحين أن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقد سئل عليه السلام أي الصدقة أفضل؟
قال: «صدقة في رمضان». رواه الترمذي
قال الشافعي: "أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.
وذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: "إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة، كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
وقد حدث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فطر صائماً كتب له مثل أجر الصائم لا ينقص من أجر الصائم». رواه أحمد وغيره.
سئل بعض السلف لم شرع الصيام؟
قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينس الجائع..
قال ابن رجب: "فمن لم يقدر فيه على درجة الإيثار على نفسه، فلا يعجز عن درجة أهل المواساة".
كان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم، لم يتعش تلك الليلة.
واشتهى بعض الصالحين طعاماً وكان صائماً فوضع بين يديه عند فطوره، فسمع سائلاً يقول: من يقرض المللي الوفي الغني؟
فقال: عبده المعدم من الحسنات، فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه، وبات طاوياً.
وجاء سائل إلى الإمام أحمد، فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره، ثم طوى أصبح صائماً.
وللعمرة في رمضان شأن خاص، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: «ما منعك أن تحجين معنا؟»
قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه لزوجها وابنها، وترك ناضحاً ننضح عليه
قال: «فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في ر مضان حجة». أو نحو مما قال.
كما لنتعلم من شهرنا الصبر عن معاصي الله، من غيبة ونميمة وفحش الكلام، ومنكرات الأفعال والسماع والنظر قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور، والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه». أخرجه البخاري.
فليس الصوم الحقيقي الإمساك عن الطعام والشراب، ولكنه مدرسة تربى فيها النفوس على البعد عن المباحات، حتى تألف بعدها وتعتاد عليه، فيصبح البعد عن الشرور والمعاصي سهلاً يسيراً ومن باب أولى، وفي الأثر: «ليس الصيام من الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث». قال الحافظ أبو موسى المديني هو على شرط مسلم.
قال بعض السلف: "أهون الصيام ترك الشراب والطعام".
وقال جابر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم".
إذا لم يكن في السمع مني تـــــصاون *** وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظــــمأ *** فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
قال ابن رجب: "وسر هذا، أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات.. ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار، ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل".
واعلم وفقك الله.. إنك بصبرك عما تقوم عليه حياتك، من أكل وشرب، وعن شهواتك من جماع وغيره، في نهار كامل، في شهر كامل، فأنت على الصبر عن معاصي الله وعلى طاعته باقي عمرك أقدر وأصبر.
ومتى ما تعلمنا من شهرنا الصبر على طاعة الله، والصبر عما حرم الله، فقد حققنا التقوى التي أرادها ربنا سبحانه وتعالى بفرضية الصيام علينا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
فالقضية ليست تعطيشاً وتجويعاً، وإنما هي تربية على المبادرة للطاعات، والاستجابة للأوامر، وفي الأمر بتعديل الفطور وتأخير السحور، وتفضيل ذلك، ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر».
أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن صام رمضان، وقامه إيماناً واحتساباً، وأن يجعلنا من عتقائه في هذا الشهر الكريم من النار.