القرآن هو الكتاب الوحيد في هذا العالم، الذي ينشر تحديه بين كلماته.. و ليس بوسع أحد من العالمين أن يكسر هذا التحدي.. و إن جازف بعض الآحاد لفعل ذلك , و لكن ثبت من خلال ما قدموه زيف رؤيتهم وكذب ما قدموه. و لعلنا نسأل عن وجوه تحديه، و من هم المخصوصين بهذا التحدي. * وجوه التحدي في القرآن
مع أن القرآن نزل بلسان عربي مبين.. إلا أنه قد وجه تحديه للعالمين كافة، من إنس و جن. فما هي وجوه هذا التحدي؟, فأقول و بالله التوفيق إن التحدي في القرآن جاء علي أربع مستويات :
المستوي الأول: التحدي بالكتاب (القرآن):
فالقرآن كله معجز، و كل سورة في نفسها معجزة، و كذا كل آية و كل كلمة و كل حرف, كما أن حديث القرآن كذلك كله معجز، فإن الخلق و إن تعلموا و إن تتلمذوا لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور.و يدل عليه دعوته سبحانه و تعالى أن يؤتى بمثل القرآن، وهو على وجوه :
1. تحداهم بكل القرآن:
تحدى كل واحد من الخلق (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، الآية 49، سورة القصص, كما تحدى مجموع الإنس و الجن (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، الآية 88، سورة الإسراء.
2. تحداهم بعشر سور (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، الآية 13، سورة هود.
3. تحداهم بسورة واحدة:
تحداهم أن يأتي بشر بمثل سورة مما جاء به القرآن، أو بسورة من كتاب يماثله مستعينين بعضهم ببعض و بشهدائهم، ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .:. بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)، الآيات 38 و39، سورة يونس, (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، الآية 23، 24 سورة البقرة, و يفيد هذا الوجه، أن التحدي لابث لا يتوقف إلى قيام الساعة لقوله تعالي (و لن تفعلوا).
4. تحداهم بأن يأتوا بحديث مثله: ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ .:. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )، الآيات 33 و34، سورة الطور.
المستوي الثاني: التحدي بالخلق (الكون):
قال تعالي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)، الآية 73، سورة الحج.
و في سياق هذه الآية التي تتحدي الناس أجمعين بين المولي تبارك و تعالي لماذا حكم علي الكل بالفشل في هذا التحدي (لن يخلقوا), لأنهم لن يستعينوا بالله الخالق و إن كان التحدي بخلق ذبابة و هي أوهن الخلق (... إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا...), و مع أن الذباب من وجهة نظرنا حقير إلا أن الله لم يتحدي فردا واحدا ليفعل ذلك بل تحدي مجموع الناس متعاونين فيما بينهم (...وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ...), و لعلم الله بفشلهم تحداهم بما هو أهون من ذلك وهو استنقاذ ما يسلبهم الذباب (...وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ...)، إذ لما استحال عليهم فعل الخلق، تحداهم بما هو دون ذلك .. و هو أبلغ في التحدي. و أخيرا بين الله للمتحدي حقيقة حاله أمام الذباب, فالناس ضعفاء محتاجون إلي غيرهم كما أن الذباب ضعيف محتاج إلي غيره فقال تعالي (...ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ...)، وهو أودع درجات التحدي في هذا الباب، لمن كان له فهم أو رشد.
المستوي الثالث: التحدي بالفكر، الذي هو البرهان:
قال تعالي متحديا المنكرين لربوبيته و ألوهيته بأن يأتوا بالبرهان (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أإله مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، الآية 64، سورة النمل, (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، الآية 111، سورة البقرة.
فإن البرهان، و هو مبلغ ما يحصله العقل من التحديق في هذا العالم، إذا لازمه الصدق يدل على الحق، و إنما كان ذلك لعجزه عن إدراك ذات الله، وواجب عليه الإيمان بالله لأنه لا يدرك الله، فالإيمان واقع عقلا، لا لإدراك منه، بل لأنه لا يدرك. إن العقل يستطيع أن يرى الله رؤية واضحة، إذا هو وقف من هذا الوجود وقفة المتأمل البصير الصادق، الذي يفرق بين الأسباب و المسببات، و بين العلل و المعلولات، و ينظر الخالق بالخلق الذي خلقه.. فتلك هي وظيفة العقل في هذا الباب..(سُئل الصديق الأكبر، أبو بكر، رضي الله عنه : بم عرفت ربك ؟ فقال : عرفت ربي بربي.. و لولا ربي ما عرفت ربي، فقيل له : و هل يتأتى لرجل أن يدركه ؟ فقال : العجز عن الإدراك إدراك).
ثم إن العقل، و هو ديدن البرهان ومعمله، في حد ذاته رسالة من الله، فهو يحمل نور الإيمان، ولا يشع هذا النور إلا إذا لزمه الصدق، لذلك قال الله تعالى : إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ..
المستوى الرابع : حديث القرآن عن أهل العلم، و هو علي خمسة وجوه خص بها القرآن أهل العلم :
الأول، قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)، الآية 49، سورة العنكبوت.
والثاني، قوله تعالى : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، الآية 18، سورة آل عمران.
و الثالث قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، الآية 54، سورة الحج.
و الرابع، قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)، الآية 7، سورة آل عمران.
و الخامس، قوله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، الآية 85، سورة الإسراء.
فهو في الأول يستعلي بهم، و في الثاني يستشهد بهم، وفي الثالث يهدي بهم، وفي الرابع يتحدى بهم، وفي الخامس يتحداهم لعلوه و سموه عليهم. فالبشر لن يدركوا كنه الوجود، و إنهم إن أدركوا شيئا من عالم المادة فلن يدركوا إلا بعض الظواهر التي تلوح على سطحها، أما أعماقها و أغوارها فلا يصل البشر إلى شيء منها, قال تعالي (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ .:. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، الآيات 6 و7، سورة الروم. الناس لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، أما الأغوار و الأعماق فيفصله الحق، و يفسره الحق، والحق هو القرآن، يقول الله تعالى : (الم .:. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .:. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ .:. )، الآيات 1-3، سورة السجدة.