يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ [1] وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [2] وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [3] قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [4] النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [5] إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [6] وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [7] وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [8] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [9] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [10]}... سورة البروج آية 1-10.
روي مسلم في صحيحه عن صهيب أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحرا فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فأبعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه فكان في طريقه راهب فقعد أليه وسمع كلامه فاعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد غليه فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب؟
فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب احب أليك من امر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فاتى الراهب فاخبره فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما الاى، وإنك ستبلى فأن أبتليت فلا تدل على ذلك، وكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص [ويداوي الناس من سائر الادواء] فسمع جليس للملك وكان قد عمى، فاتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنالك أجمع كله إن أنت شفيتني.
فقال إني لا أشفي أحدا، أنما يشفي الله، فإن انت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي: قال ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله . فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجييء بالغلام فقال له الملك: أي بني أقد بلغ سحرك ما تبرئ الكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟
فقال: أنا لا أشفي احدا، إنما يشفي الله. فأخذه. فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجئ بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك. فابى فدعا المنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ثم جئ بجليس الملك فقيل له: أرجع عن دينك. فابى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جئ بالغلام فقيل له أرجع عن دينك فابى فدفعه إلى نفر من اصحابه فقال: أذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاطرحوه فأصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فأطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم أكفينهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من اصحابه فقال: أذهبوا به فاجعلوه في قرقور (أي زورق) فتوسطوا به البحر فأدفعوه فأن رجع إلى دينه وإلا فأقذفوه.
فذهبوا به فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت فأنكفات بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله. فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما امرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما [من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس].
ثم قل: بأسم الله رب الغلام ثم أرميني، فانك إن فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما [من كنانته (أي جعبة سهامه) ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال]: بأسم الله رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام: آمنا برب الغلام: آمنا برب الغلام: [فاتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت واضرم النيران: وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها. أو قيل له اقتحم.
ففعلوا حتى جاءت امرأة زمعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أمه أبصري فإنك على الحق وفي روايه ثانية أثبتي على ما أنت علفإنما هي غميضة فألقوها وابنها [وكان الملك هو يوسف بن ذي نواس] والغلام هو عبد الله بن ثامر وكان الأخدود في بلاد نجران: ولقد ذكر الله ذلك وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لبيان؟ ما كان يلقاه من وحد الله قبلهم من الشدائد.
ليعلمهم الصبر [ويؤنسهم بذلك وليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به وبذله نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره وكذلك صبر الراهب وصبر جليس الملك على التمسك بالحق حتى نشرا بالمنشار وكذلك المؤمنون لما آمنوا بالله ورسخ الإيمان في قلوبهم. فصبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا عن دينهم].
أن الصبر على الشدائد هو من شيمة الإيمان وذلك لا يأتي إلى من قويت نفسه وصلب دينه والمؤمن مطالب بذلك يقول الله تعالى على لسان لقمان لأبنه: {وأصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} وروي أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ وقال: أوصني فقال صلى الله عليه وسلم (لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت بالنار).
ولقد أمتحن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد فصبروا ولم يتلفتوا إلى شيء من ذلك وهكذا فان العبد يبتلى على قدر إيمانه فاشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وما زال الرجل يبتلى حتى يمشي على الأرض وليست عليه خطيئة.
وفي الحديث: (إذا أحب الله قوماً أبتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) إن المؤمن السارب في الحياة هذف لمشاكلها الجمة ام العاجز الهارب من الميدان فماذا يصيبه؟ فالمتعرض لآلآم الحياة يدفعها وتدافعه أرفع عند الله من المنهزم القابع البعيد. وما أدخره الله لأولئك المعانين الصابرين يفوق ما أدخره لضروب العبادات الأخرى من الثواب الجزيل روى الترمذي (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب لو ان جلودهم كانت قرضت بالمقاريض).
وهكذا تعرض سورة البروج ملامح الإيمان والعقيدة حتى إنها ليطلق عليها سورة العقيدة وقد روي أن اله تعالى قبض أرواح المؤمنين قبل أن يقذف بهم في النار كما روي أن النار قد علت ألسنتها أربعون ذراعا حتى ألتهمت الملك والذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات وهكذا من اضرم النار أحرقته.