إيضاحـــات عــلمية لأحـــكام فـقهية:
• نجاســة الــكلب وإزالتها:
روت كتب السنة حديثاً نبوياً يأمر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزالته نجاسة الكلب، وحددها بولوغ الكلب في الإناء، أي بشربه مما فيه، وتعددت روايات الحديث الشريف، وفيما يلي بعض هذه الروايات:
* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات ) رواه مسلم في صحيحه.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب) رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه (كتاب الطهارة).
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفرّوه الثامنة بالتراب ) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا شرب الكلب في إناء أحكم فليغسله سبعاً) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الوضوء) ومسلم في صحيحه (كتاب الطهارة).
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب) رواه الشيخان.
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات ) متفق عليه.
ونظرا لتعدد الروايات، اختلفت المذاهب الفقهية في تحديد المطلوب بعد ولوغ الكلب في الإناء، وتعددت ـ لذلك ـ الفتاوى قديماً وحديثاً، وكل صاحب فتوى يسوق أدلة يدعـــم بها رأيه... وقد بحث إحسان بن محمد بن عايش العتيبي هذا الموضوع، ووضع فيه كتابا، ذهب في مقدمته إلى أحكام، نوجزها فيما يلي:
1) لا فرق بين أن يكون في الإناء ماءُ أو لبنُ أو زيتُ ُ أو طعامُ ُ، لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلْيرقه)، وعموم قوله (طهور إناء). وعليه، فتفريق المالكية بين إناء الماء فيراق ويُغسل، وبين إناء الطعام فيؤكل ثم يُغسل الإناء، تعبّدا، مما لا دليل عليه.
2) ينصّ الحديث الشريف، برواياته، على تنجّس الإناء بولوغ الكلب فيه، ووجــوب تطهيره، لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء...).
3) الأمر بالإراقة لما في الإناء: وفيه يتضح أن الحُكم بنجاسة الإناء يستلزم الإراقة، ويؤيده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء..). وفي رواية عند مسلم زيادة (فليرقه)، رواها على بن مُسهر (عن الأعمش)، وهو ثقة احتج به البخاري ومسلم، ووثقه أحمد وابن معين والعجلي وغيره... وعليه، فالزيادة في الراوية لا تضرّ تفرّد على بن مسهر بها.
4) اقتصار الحُكم على الولوغ والشرب بالفم، دون بقية أجزاء جسم الكلب وأعضائه. أي إذا عسّ الكلب أو أدخل رجله أو أذنه في الإناء، فلا يسري على الإناء وما فيه غسل سبع مرات إحداهن بالتراب. وأما الفريسة التي يمسك بها كلب الصيد ويأتي بها صاحبه، فلسوف نتحدث في حُكمها بعد... وكذلك بول الكلب وروثه، وهما وإن كانا نجسان، فلا يسري عليهما حُكم الولوغ والشرب، بل يكفي غسل الإناء مرة واحدة، كسائر النجاسات.
5) الكلب الوارد في الحديث النبوي هو عموم الكلب، وليس نوعا معينا، ولا فرق بين كلب مأذون باستعماله وكلب منهي عنه، وإن كان بعض المالكية (كابن عبدالبر في "التمهيد") يذهب إلى الكلب المنهى عن اتخاذه، دون الكلب المأذون فيه... وقد ردّ الحافظ بن حجر ما ذهب إليه هؤلاء بقوله:
أ- يحتاج هذا الأمر إلى ثبوت تقدم النهى عن الاتخاذ على الأمر بالغسل.
ب- يحتاج هذا الأمر إلى قرينة تدل على أن المراد ما لم يُؤذن في اتخاذه.
ت- الظاهر من (اللام) (في قوله "الكلب") أنها للجنس ـ في اللغة ـ أو لتعريف الماهية.
6) إذا ولغ كلبان أو أكثر، أو ولغ كلب واحد عدة مرات، فيكفي في جميع الحالات غسل الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب. والتسبيع واجب، إذ لا صارف للأمر عن وجوبه، وقال بذلك الشافعي ومالك وأحمد وابن المنذر. وحين قال أبو حنيفة فيه بالاستحباب، فقد أخطأ. وحين رأى أبو حنيفة أن الغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات، واحتجّ له أصحابه ببعض الروايات (الموقوفة)، فقد ردّه كثير من العلماء , ومنهم البيهقي الذي قال: وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة (في الثلاث). وعبد الملك لا يُقبل منه ما يخالف الثقاب. واحتجّ أصحاب أبي حنيفة له، أيضاً، بما ورد في بعض طرق حديث أبي هريرة مرفوعاً: في الكلب يلغ في الإناء يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، وردّ العديد من العلماء هذه الرواية، ومنهم الدارقطني الذي أثبت أن الراوية ضعيفة جدا، ففيها (عبد الوهاب بن الضحاك)، وهو متروك، ومنها (إسماعيل بن عياش) وروايته عند الحجازيين ضعيفة...
7) وجوب الترتيب في الغسل، أي استعمال التراب، وذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو نور والطبري وأكثر الظاهرية. ومن لم يقل به (كبعض المالكية) فليس له حجة إلاّ عدم ذكر التراب في رواية (سبع مرات) ورواية (سبعا)، ويردّ عليه ثبوت (أولاهن بالتراب) في رواية، وثبوت (عـفروه الثامنة بالتراب) في رواية، وكلتاهما في مسلم عن أبي هريرة.
لا يحلّ الصابون، أو المنظفات الأخرى، محل التراب، فهذا أمر تعبُدي، وإن كان الباحثين والأطباء قد توصلوا حديثاً إلى بيان الحكمة فيه... 9) هل للإناء شكل وحجم معين ؟ ذهب ابن القيم (في "تهذيب سنن أبي داود") إلى أن المراد هو الإناء المعتاد، وولوغ الكلب فيه ولوغ متتابع، وينزل في كل مرة من لسان ولعاب الكلب في الماء ما يخالطه، وإن لم يغيّر لونه، فأعيان النجاسة قائمة بالماء وإن لم تُر...
10) كيف يمكن الجمع بين الراويات التي ذكرت (أولاهن بالتراب)، (إحداهن)، (عفروه الثامنة بالتراب)، و(السابعة بالتراب) ؟ أما (إحداهن) فقد ذهب الحافظ ابن حجر (في "فتح الباري") إلى ضعف روايتها، إذ في سندها الجارود بن زيد، وهو متروك، وقال ابن حزم (في"المحلى"): وكل ذلك لا يختلف معناه، لأنَّ الأُولى: هي بلا شك إحدى الغسلات، وفي لفظة (الأولى) بيان أيتهن هي، فمن جعل التراب في (أُولاَهُنَّ) فقد جعله في (إِحْدَاهُنَّ) بلا شك واستعمل اللفظتين معاً. ومن جعله في غير (أولاهن) فقد خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنْ يكون ذلك في (أُولاَهُنَّ)، وهذا لا يحل. ولا شك ندري أنَّ تعفيره بالتراب في (أولاهن) تطهيرٌ ثامنٌ إلى السبع غسلات، وأنَّ تلك الغسلة سابقة لسائرهن إذا جمعهن، وبهذا تصحّ الطاعة لجميع ألفاظه صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر.ا.هـ