الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمن الظواهر التي باتت واضحةً وضوحَ الشمس في كبد السماء سيطرةُ الجانب الإسلامي على الحصة الأكبر من كل الأنشطة المتعلقة بعالم الكتب، فمع وجود دُور النشر الإسلامية المتخصصة في الكتاب الإسلامي فقط، ومع وجود مَعَارض الكُتب الإسلامية، إلا أن الكتاب الإسلامي يحتل أكثر من نصف إنتاج دور النشر العامة، وأجنحة الكتاب الإسلامي تمثل أبرز الأجنحة في معارض الكتاب العامة، ومنها معرض القاهرة للكتاب، والذي يتوهم الزائر له لأول مرة أن عنوانه قد أصابه خطأٌ مطبعيٌ بإسقاط كلمة (الإسلامي) منه من شدة سيطرة المظاهر الإسلامية على المعرض.
ومع محاولة فلول اليساريين أن يجعلوا من معرض القاهرة مرثية يسارية يستعيدون فيها شيئاً من عرشهم الضائع، يساعدهم في ذلك الإعلامُ الذي يغطي أنشطتهم، وهو في واقع الأمر يغطي على خيبة أملهم في أن يفكر أحدٌ مرة ثانية في القراءة في متحف كتب الاشتراكية.
وعلى الرغم من محاولاتهم المستميتة إدخالَ كتبِ التراث إلى المتحف بدعوى عدم مناسبتها للعصر أو بدعوى أنها ذات أوراق صفراء؛ إذا بالمطابع التي في القاهرة والرياض، وبل وفي بيروت -حيث يسيطر النصارى على سوق المطابع-، وبدافع من وجود القوى الشرائية؛ يضخون في كل عام من أمهات كتب التراث في حُلَّةٍ جديدة، وتجليدٍ فاخر، وفهرسة حاسوبية، حتى إن الأشخاص المغرمين باقتناء الكتب الصفراء صاروا يعانون من ندرتها حتى في معرض ضخم كمعرض الكتاب!!
وبينما يضطر المفكِّر اليساري -مهما كانت شهرته في عالم الثقافة اليسارية- إلى وضع لافتة زرقاء يكتب عليها اسمه، وربما ضم إليها وردة حمراء حتى يعرفه جمهوره -إن وجدوا-؛ تجد كثيراً من الدعاة صار يجد صعوبة بالغة في تفقُّدِ المعرض من الزحام الذي يكون حول الدعاة!!
الظاهرة لها -بالطبع- ما يفسرها، وهو أن الجيل الجديد هو جيل (ما بعد مدرسة المشاغبين)، وهو جيل (المشاغبين) من دون مدرسة.
فإذا كانت مدرسة المشاغبين قد قدمت نموذجاً للطالب الذي يشاغب أستاذَه، وصار هذا النمط هو الأكثر شيوعاً في مدارسنا؛ فإن الفضائيات اختصرت الطريق بالجيل الجديد إلى الشارع والمَرْقَص، وإلى المقهى -على أحسن الأحوال-، ومن هناك يمكن أن يتثقَّفَ بعضُ هؤلاء على الوجبة الثقافية المسمومة التي تدس بين طَيَّات (الفيديو كليب)، و(ستار أكاديمي) وأخواتِه، ومن ثم يحصل هؤلاء على ثقافة مسمومة دون قراءة ولا كتب، بينما ينشغل معظمهم في الفترات البينية بين (الكليبات) بـ(الطاولة) وأخواتها.
إذاً فنحن إمام جيل المشاغبين الذي تخلصت منه المدارس، ولكنها في ذات الوقت تخلصت من المدرسين الذين أنهكتهم الحرب الضَّروس مع جيل مدرسة المشاغبين، فقرروا نقل نشاطهم إلى "الدروس"، حيث يأتي الطالب الراغب فقط، بالإضافة إلى العائد المادي الجيد، وأصبحت بعض مراكز مجموعات التقوية بمثابة مدارس موازية عدداً وعدة، وهؤلاء وإن سدوا الفراغ التي تركته المدرسة في جانب المنهج المقرر، إلا أنهم بطبيعة الحال ليس لديهم الرغبة ولا القدرة في سد جوانب الاطلاع خارج المنهج، بالإضافة إلى أن جُلَّ هذه المراكز تعادي "الكتاب" من حيث المبدأ، وتستعيض عنه بما يسمى بالمذكرة، والتي تختلف عن الكتاب في الشكل؛ حيث إنها معدة للاستخدام مرة واحدة مثل الكوب البلاستيكي تمامًا، بل يُخيَّلُ إليك أحياناً أنها من حيث الشكل ملائمة لمرحلة ما بعد الامتحان -عندما تستخدم في لف المشتريات في محال البقالة-، أكثر منها لمرحلة ما قبل الامتحان؛ حيث يفترض أنها معدة للقراءة والمذاكرة.
فلم يبق على الساحة أحد يعتمد على الكتاب كوسيلة معرفة غير الإسلاميين الذين يعتبرون الكتابة هي الوسيلة المفضلة للتعبير عن منهجهم، على الرغم من وجود وسائل أُخَر، بينما تتعين هذه الوسيلة فيما يتعلق بالاستفادة من علوم السلف، ومن ثم ظل الإقبال على الكتاب كبيراً في صفوف الإسلاميين، وفي صفوف الجمهور الراغب في المعرفة الإسلامية عموماً.
وبحكم المكانة التي يحتلها طلب العلم في سلم أولويات السلفيين فقد كان لهم النصيب الأكبر من الاهتمام بالكتاب الإسلامي، بل إن الإسلاميين يمثلون جمهوراً لا بأس به لكتب الأدب العربي وعلوم اللغة بصفة عامة، كما يمثلون جمهوراً لا بأس به لكتب العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ولا أدري متى يعترف اليساريون الذين يحلو لهم أن يحتكروا وصف الثقافة بواقع "ثقافتهم"؟! أم أن بيانات إسقاط المئات من طائرات العدو في المعارك الخاسرة، وبيانات جعل البلاد التي سقطت بالفعل في أيدي العلوج مقبرة لهم ما زالت هي اللغة السائدة عند اليساريين حتى في مجال الثقافة؟!
وهذه الظاهرة تمثل جانبا مضيئا، وتمثل إحدى المبشرات الكثيرة التي تؤكد أن المستقبل للإسلام، وأنه وإن كان عدد الشباب الذي يغرق في بحار الشهوات كبيراً؛ فإن عدد الذين يغرقون في بحار الشبهات في تناقص؛ حيث جففت منابع تلك "الشبهات" بفضل من الله ورحمة عن طريق عزوف الناس عن قراءة الكتب التي تدعو إليها.
إلا أن الظاهرة لم تخلُ من سلبيات يجب علينا جميعا أن نتعاون من أجل تلافيها:
منها أن كثيراً من الناس -بل ومن أبناء الصحوة- قد ترسَّب في ذهنه أنه طالما لم يكن خِرِّيجا لكلية شرعية؛ فهو في حاجة إلى ثقافة دينية، والتي تعني عنده معرفة مجملة، بل و"مشوهة" في كثير من الأحيان، ومن ثَم يتعامل مع الكتب بطريقة الجرائد التي يقرأها الإنسان مع انشغاله بطعام وشراب، وربما ومزاح، وغير ذلك من الشواغل.
فمما ينبغي أن يُعلم أن دينَ الله لا ينبغي أن يكون عُرضة لهذا العبث، وأن القارئ للكتب الشرعية عليه أن يتعامل معها تعامل الطالب المُجِدّ مع منهجه الدراسي، و مهما تفاوت الكتاب سهولة وصعوبة، أو تفاوت حجمه صغراً وكبراً؛ فلا بد من التعامل معه باحترام وإتقان.
ومما يتفرع على هذا المفهوم المبتور للثقافة الدينية لدى القراء عدمُ اعتناء الكثيرين منهم بمعرفة أصول العلوم ومبادئها، وما يترتب بعضه على بعض فيها، وكم من آفة حدثت من جراءِ مَن استعمل كتابًا لم يوضع له!
فبعض الناس يقرأ كُتُبا غيرَ محققة الأحاديث، ثم يعتقد كل ما نُسِبَ فيها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقٌ دون أن يدري -ولو إجمالاً- المقبولَ والمردودَ مما نسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!!
وبعض المتحذلقين يقرأ في كتب أصول الفقه، ولكن بلا أصول ولا دراية بكيفية تطبيق الأئمة لهذه الأصول،
وبعض الناس يظن أن الكتب من الممكن أن تُغنيَه عن التعلم والسؤال، فيجمع الكتب لكي يفتي نفسه بنفسه دون تعلُّمٍ، ودون أن يرجع إلى أهل العلم المعتبرين فيما يقع له من أمور لم يتعلمها على أصولها.
ومن هذه السلبيات:
- تحوُّل شراءِ الكتب الشرعية إلى ديكور اجتماعي تُزيَّن به المكتبات، دون رغبة حقيقية في التعلم.
وليس معنى هذا المنع من شراء الكتب إلا لمن شرع في دراستها، ولكن ينبغي أن يكون الشراءُ مقرونا بالرغبة في دراسة الكتاب، أو العلمِ بالحاجة إليه في المستقبل للدراسة المنتظمة، أو للبحث فيه إذا كان ممن يصلُح لذلك، ولا بأس أن يكَوِّنَ الأبُ لأولاده مكتبة كبيرة على أن يزرع فيهم معها حب العلم.
- ومنها: الرغبة في الإغراب لدى المؤلفين والناشرين والقارئين.
مما جعل بضاعة زائفة كتلك الكتب التي تتنبأ بموعد بعض الغيبيات تنتشر انتشار النار في الهشيم، بل إن بعض المؤلفين يكتب في بعض الأمور التي يُقبِل عليها العامةُ معتمدا على الغريب لا على الصحيح، كما تجد ذلك في كثير من الكتابات التي تتكلم عن عذاب القبر وغيره معتمدة على الروايات الضعيفة لغرابتها، مع إعراضها عن الصحيح الثابت؛ مما أعطى الفرصة للعلمانيين لكي يهاجموا أصل هذه العقائد مع ثبوتها.
- ومنها: أن الناشرين أرادوا أن يستثمروا رواج الكتاب الإسلامي في ترويج غيره.
ولهذا صُوَرٌ: من أهونها أن تجد الجناح الإسلامي وقد ضم كتبا من عينة "أشهى المأكولات" و"أحلى الحلويات"، ووجود هذه النوعية من الكتب بجوار الكتب الإسلامية غير لائق، ولكن الأخطر من ذلك أن يُضاف وصفُ الإسلامي إلى هذه الكتب, وهذا يشمل قائمة طويلة من "الطب الإسلامي" إلى "الجنس الإسلامي"، ومعظم هذه الكتب تأخذ توجيهًا شرعيًّا عاما، ثم تضيف إليه عشرة أمثاله من كلام المؤلف وعلومه وخبراته التي لا علاقة لها بالشرع، والتي تصيب حيناً وتخطئ أحيانا، ثم يوسم الكتاب برمته بأنه يتكلم عن الطب الإسلامي أو عن غير ذلك من فروع المعرفة الإسلامية.
ألا فليعلم الجميع أن اقتناءَ الكتب وسيلةٌ، وأن الغاية هي طلب العلم، وأن على كل واحد أن يضع لنفسه قدرا مُستهدَفا من العلم، أو -إن شاء- الثقافة الإسلامية، على أن تكون جادة منظمة مبنية على أصولها، وأن شراء الكتب ينبغي أن يخدم هذه الغاية.
والأهم من ذلك كله:
أن يعلم كل مُشْتَرٍ أن شراءَه للكتاب لا يساوي أنه قد قرأه، وقراءَته إياه لا تعني أنه قد درسه، ودراسته لا تعني أنه قد فهمه، وفهمه لا يعني أنه قد عمل بما فيه، وأن كل ذلك في حاجة إلى الدعاء والإخلاص حتى يُتَقبَّل.