ثمرة الصيام
الصوم لا يتحقَّق لامرئ ما لم تكن أعماله كلها ودون استثناء إحساناً.
الحقيقة أن النفس حرَّة بإرادتها واختيارها؛ منحها تعالى الإطلاق والحرية، فأنت لا تستطيع إجبار نفسك كرهاً، بل بالحجة والبرهان المنطقي.. فإن أقنعتها سارت معك ووافقتكَ، إن أحسنتَ وأصلحتَ عندها تُقبل نفسك على الله تعالى منبع الخيرات كلها وموئل الفضائل فتتشرَّب نفسك الكمالات؛ أما إن أفسدتَ صومك بمخالفةٍ فلن تستطيع الإقبال، إذ حلَّ بساحتها الخجل وفقدت الثقة.
والآن كثير منا يصوم صورةً عن الطعام والشراب ولا يصلِّي، يحجُّ ويشتغل بالربا، يؤمن بما يناسب هواه ويكفر بما يُعارض شهواته. مثال لذلك: الأندلس دولة عظيمة، لكنها زالت، إذ كانوا يستعينون بالأجانب على بعضهم البعض، كذلك اليهود أهل الكتاب كانوا يستعينون بالعرب الوثنيين على بعضهم بعضاً.
أما المؤمن فيؤمن بالكل، فلا يطبِّق واحدة تناسب هواه ويترك الأخرى لأنها لا تتناسب وشهواته، أي يجاهد النفس والهوى.. فمن يفعل ذلك، أي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضٍ يحصل له ما حصل لهم..
عرف الحق وما سار به، ولكن المصير المرعب حينما يذهب للآخرة فلا يجد له عملاً صالحاً يصلح للإقبال على الله وخالصاً من الغايات بأعراض أو أموال الناس فيحترق حزناً، إذ تستيقظ فطرة الكمال فيه وقد زالت الشهوات والأهواء فلا يجد دواءً لحريق نفسه ولا تسكيناً لها إلاَّ بالنار وبئس العلاج وساءت مرتفقاً.
أما إن أقبلت النفس على الله واثقة من عملها الطَّيب النزيه عن الغايات المنحطة اشتقت نفسك الكمال وازدانت به فأحبَّت أهل الكمال وصاحبتهم مقدِّرة كمالهم السامي، عندها تدخل معهم على الله تعالى وتنساح في بحور الجلال والجمال الإلهي.. بذا تكون قد توسَّعت ونمت بالحب الإلهي الصافي الشريف فتجردت عن الدنايا والأغراض النفسية، فلا تطمح لمردودٍ لإحسانها من المخلوقات، بل من بارئها خالق الخيرات، عندها تستنير بنوره تعالى وترى الخير من الشر {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي}
وهذه ثمرة الصوم كما بالحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به». فبه نوال ليلة القدر، إذ به بعدها تُعرض نفس الصائم عن المنكرات وتكرهها لمشاهدتها ما فيها من شرور بالنور الإلهي الذي اشتقته بهذه الليلة المباركة، ويحظى الصائم حقّاً بتُحف المكرمات وهذا الباب مفتوحٌ لكلِّ مؤمن.. فاحذر عندها من الانقطاع عن الله، تعالى فتكون صلاتك كاملة صحيحة.
المؤمن بإيمانه وصيامه يُحفظ من الوقوع ويكتسب ثقةً فيُقبل على الله تعالى ويصلِّي الصلاة التي يحصل بها على الطهارة القلبية من حضرة الله تعالى فتطهر النفس من كافة الشوائب ويغدو الصائم طاهراً نقيّاً كيوم ولدته أمه، عندها ينطلق للإصلاح وفعل المعروف وعمل الإحسان، إذ غدا إنساناً بحقيقة ما تحويه الإنسانية من معنى سامٍ، فقد استأنس بالله منبع كل خير ونال الخير فأفاضه على الناس دون أجر ولا غاية، عندها يستأنس الخلْق به، لذا خُلقنا لنكون إنساناً فنَسعَد ونُسعِد وتغدو الجنة في الأرض ويحلُّ في ربوعها السلامُ والمحبة الشريفة الإنسانية والعيش الرغيد الهنيء.
وهذا مراد أرحم الراحمين رب العالمين، فهو ليس ربُّ أمة دون أمة، وليس ربنا فقط، بل ربُّ العالمين قاطبةً يبغي السعادة للعالمين كافة.. سعادة دنيوية فأُخروية سرمدية.. سعادة كبرى يحظى بها وينشرها الصائم المؤمن.
من علوم فضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو