انقسم شعوري.... فكان في كل وادٍ منه شعبة وأنا أدلف ساحة المسجد النبوي الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام.
كنت موزعاً بين شوقٍ إلى النبي لم أجده طاغياً في النفس ولا مهيمناً على القلب، وبين جفلةٍ من السطوة التي يفرضها رونق رخام الأروقة المتلألأ وأعمدة المرمر المزخرفة وزينة السجاد الفاخر.. جلال يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. وبين جفوة الزحام الذي أخافه دائما وأتجنبه ما استطعت.
حال الموج البشري بيني وبين الدخول إلى المسجد من باب السلام أو من باب البقيع أقرب الأبواب للحجرة النبوية الشريفة حيث يرقد النبي – عليه الصلاة والسلام- لإلقاء السلام عليه. فدخلت من باب سيدنا بلال - رضي الله عنه – وصليت ما شاء الله لي أن أصلي، فجَـمَـعَـتِ الصلاة شظايا نفسي، وجعلت بثّـي واحداً.... "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"
حافظت على الصلوات الخمس منذ نعومة أظفاري، وذقت طعم الخشوع في بعض تلكم الصلوات، وتدبرت ما تليت أو سمعت فيها من قرآن وتسبيح وركوع وسجود، لكن لم يحدث قط وعلى مدى ثلاثين سنة مضت على التزامي بالصلاة أن يكون الجلوس الأخير قبل التسليم مدعاةً للخشوع والبكاء، ولم يحدث لي من قبل أن ألقيت السلام على النبي بكامل عقل وبملء شعورٍ وحيد لا يخالطه شعور كما حدث اليوم "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته...."
كانت كلمة "عليك" هي التي تستجيش شجوناً واتصالاً بحضرة النبي لم أعشه من قبل..
التحيات لله والصلوات والطيبات... الحمد لله الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا.. عزيز عليه ما عنتنا.. حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم
السلام عليك أيها النبي... وقد خطف الموت أباك قبل أن يراك، وطوى الأجل أمك وأنت ابن ست سنين..
السلام عليك أيها النبي... وقد رددت الفضل لربك فقلت: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" فما أقلت الغبراء أصدق منك لهجة، ولا أوفى منك ذمة، ولا أرأف منك بالعالمين، واحتمى بك الناس إذا حمي الوطيس فقلت لهم" لن تراعوا.. لن تراعوا"، ولم تبلغ الريح المرسلة جودك، وتمّم الله بك مكارم الأخلاق.
السلام عليك أيها النبي... وقد أذاك قومك وأخرجوك وكسروا رباعيتك وقذفوك بالشوك والحجارة وأدموا قدميك فيُعرض عليك إهلاكهم فتقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"..
السلام عليك أيها النبي... وقد صليتَ في حجرتك حتى تفطرت قدماك وأنت طاوٍ على الجوع في بيوت لا توقد فيها نار وترأف بحالك أمنا عائشة – رضي الله عنها – فتقول: " أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" فتجيبها: "أفلا أكون عبداً شكوراً"
السلام عليك أيها النبي... وأنت تحفر الخندق وقد دثّرك وأصحابك البردُ، تربط على بطنك حجرين، تبشرهم بالنصر..
السلام عليك أيها النبي... وأنت على مشارف مكة فاتحا وقد أحنيت رأسك على رحلك تواضعاً لله.. ثم قلت للذين حاربوك "لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء"..
السلام عليك أيها النبي... وقد حملك الوفاء إلى الرجوع مع أنصارك للمدينة تاركاً أحب بلاد الله إليك.. مسبحاً ربك مستغفراً..