الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(يوسف: 108).
فكل مسلم مخاطب بأن يدعو إلى الله -عز وجل- في بيته وعمله ومسجده، بل في كل مكانه حسب استطاعته، والدعوة إلى الله ليست موجهة إلى المسلمين فقط كما يظن بعضهم، ولكن إلى الناس جميعاً (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء: 107)، فدعوة الكفار إلى الإسلام لزام على المسلمين كي ينجوا هؤلاء الكافرون من عذاب الآخرة.
- من نماذج علو الهمة في الدعوة إلى الله:
قال ابن الجوزي: "تاب على يديَّ مئة ألف، وأسلم على يديَّ عشرون ألفاً".
والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام، وصفوه بأنه كان رَجُل عامَّة، يقول أبو إسحاق الفزاري: "ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري، أما الأوزاعي فكان رجل عامة، وأما الثوري فكان رجل خاصة، ولو خُيِّرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي".
وبلغ الثوري وهو بمكة مقدم الأوزاعي، فخرج حتى لقيه بذي طوى -موضع بمكة-، فلما لقيه حل رسن البعير من القطار، فوضعه على رقبته فجعل يتخلل به، ومالك بن أنس يسوق به، فإذا مرَّ بجماعة قال: "الطريق للشيخ".
أما أبو إسحاق الفزاري نفسه، فقد كان رجل عامة أيضاً، قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: "قلت لأبي أسامة أيهما أفضل: فضيل بن عياض أم أبو إسحاق الفزاري؟ فقال: كان فضيل رجل نفسه وكان أبو إسحاق رجل عامة"، مع أن الفضيل كان "سيد المسلمين في وقته" كما يصفه ابن تيمية، ومع هذا يعلوه الفزاري مرتبة في رأي أبي أسامة لأنه كان رجل عامة.
ولا عجب، فهو الذي أدب أهل الثغور الإسلامية التي في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلمهم سنن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يأمر وينهى، فإذا دخل الثغر رجل مبتدع، أخرجه.
والإمام الزهري زعيم المحدثين، ربَّى أجيالاً من أهل الحواضر الإسلامية، وجعلهم أئمة في الحديث، وما كان ذلك يكفيه، بل "كان ينزل بالأعراب يعلمهم"، يحفظ من بقي صحيح العقيدة، ويتلطف مع من نجح أهل البدع في إزاغته، فيرجعه إلى التوحيد.
وجدد آخرون سيرة الزهري، منهم الفقيه الواعظ أحمد الغزالي، أخو الإمام صاحب "الإحياء"، فإنه كان يدخل القرى والضياع، ويعظ لأهل البوادي تقرباً إلى الله.
فالانخلاع عن الفردية، والتعاون على البر والتقوى من علو الهمة في الدعوة:
أخي: ألست تبغي القرب من الله؟
فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟
فواصل الخطو على آثارهم تصل، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(يوسف: 108)، وهذا من أثمن النصوص في التعاون على البر والتقوى.
قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)(آل عمران: 146)، قال ابن القيم: "فالربيون هنا: الجماعات، بإجماع المفسرين، قيل إنه من الرِّبَّة بكسر الراء، وهي الجماعة. قال الجوهري: الرِّبـِّي واحد الرِّبـِّيـين، وهم الألوف من الناس"، وورثة هذا النبي وأولئك الأنبياء، لهم أسوة حسنة بهم، لا يتفردون، بل يسيرون ألوفاً.
فلابد أن يُعمِل المسلم عقله في استغلال الوسائل والمساحات الدعوية المتاحة والمنضبطة بضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك في جميع أحواله وأينما حل أو ارتحل؛ في بيته أو طريقه أو سوقه أو عمله؛ لاسيما والخلق متعطشون لمعاني الإيمان بالله تعالى، خصوصاً المحرومون من هذه المعاني بالكلية؛ وعلى سبيل المثال فلعل بعضنا يقابل سائحاً أجنبياً أو بائعاً صينياً -بعد الغزو التجاري الصيني لمصر- فهذه فرصة طيبة لإهدائه كتاباً عن الإسلام بلغته، وهذه الكتيبات متوافرة -والحمد لله- في المكتبات أو جمعيات الدعوة إلى الإسلام.
فهذا عمل يسير قد يكون سبباً في أن يشرح الله -عز وجل- صدر هذا الرجل للإسلام بدلاً من أن يأتي للسياحة غير المشروعة، ويكون أيضاً عوناً للمسلمين في بلاده، لاسيما الصين التي يعاني مسلموها القاطنون في إقليم تركستان الشرقية وطأة الحكم الصيني الشيوعي الغاشم، وهكذا أن تبذر ثمار الخير والقبول من الله سبحانه.
والحمد لله رب العالمين.