الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد,
هذه بعض أخلاق وآداب يجب على طالب العلم أن يتحلى بها, فمن هذه الأخلاق التواضع والحذر من الكبر, يقول ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين في كيفية علاج الكبر واكتساب التواضع: "ذلك بأن يعرف الإنسان نفسه, ويعرف ربه, فإنه إذا عرف نفسه حق المعرفة, علم أنه أذل من كل ذليل, ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده بعد العدم من تراب, ثم من نطفة خرجت من مخرج البول, ثم من علقة, ثم من مضغة، فقد صار شيئاً مذكوراً بعد أن كان جماداً لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك, فقد ابتدأ بموته قبل حياته, وبضعفه قبل قوته, وبفقره قبل غناه، وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ • مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (عبس:18 -19) ثم امتن عليه بقوله (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (عبس:20) ا.هـ
فهذه بدايتك، ومن تأمل في نفسه رأى الضعف والفقر والحاجة والمسكنة, وقد رُوي أن رجلاً قال لأحد السلف: "أما تعرفني"، قال: "بلى أعرفك، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة", وقال آخر: "أنت روح إذا خرجت لم تساوي شيئاً".
وأن يعلم العبد كم يساوي في هذا الكون الفسيح الذي هو من خلق الله، أنت إنسان من مليارات البشر على هذه الأرض على مر الزمان فكم تساوي أنت من الأرض, وإذا علمت أن الأرض لا تساوي شيئاً في ملك الله ـ جل وعلا ـ وأنها جزء صغير من ملايين الكواكب والنجوم التي لا يعلم عددها إلا الله فكم تزن أنت في هذا الكون الهائل.
وترى مع ذلك عظمة الله وسعة ملكه وسلطانه سبحانه وتعالى لأنه أكبر ـ جل وعلا ـ، فما السماوات والأرضون بالنسبة إلى الكرسي إلا كحلقة في فلاة، هذا التأمل والتفكر في نفسك والكون من حولك يطرد من قلبك الكبر ويكسبك التواضع.
واعلم أن التواضع سبب للرفعة عند الله, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من تواضع لله رفعه وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً".
وللتواضع علامات منها:
1- احتقار النفس واتهامها دائماً، وأن لا يرى لنفسه فضلاً، بل الفضل لله ثم لغيره عليه.
2- استعظام الإحسان من الآخرين.
3- استصغار الإساءة.
4- قبول المعذرة من المسيء إليك.
وللكبر والعياذ بالله علامات أيضاً منها:
1- استعظام النفس والثناء عليها وأن يرى أن له فضلاً وحقاً كبيراً.
2- استعظام الإساءة من الآخرين.
3- استصغار الإحسان من الآخرين.
4- عدم قبول المعذرة.
فاحذر أخي من الكبر فإنه مورد للمهالك وسبب للكفران (إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 34), وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر", وتأمل في مآل المتكبرين يوم القيامة, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأخفافهم".
فكيف تتكبر وأنت المسيء المذنب؟ وكيف تتكبر ومآلك إلى زوال؟ فما أجمل التواضع لطالب يزينه ويرفعه.
وأول من ينبغي أن تتواضع له معلمك، ففي كتاب "حرمة أهل العلم" لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، وتواضع الطالب لشيخه عز وذله له عز وخضوعه له فخر, قال ابن عباس: "ذللت طالباً, فعززت مطلوباً".
وعن أبي بكر محمد بن الأدموني النحوي قال: "إذا تعلم الإنسان من العالم واستفاد منه الفوائد, فهو له عبد, قال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (الكهف: 60) ـ وهو يوشع بن نون ـ ولم يكن مملوكاً له, وإن كان متلمذاً له, متبعاً له فجعله الله فتاه لذلك".
وقال عبد الله بن المعتز: "المتواضع في طلاب العلم أكثرهم علماً, كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماءاً".
عن الشافعي قال: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح, ولكن من طلبه بذل النفس, وضيق العيش, وخدمة العلماء أفلح".
وقال شعبة: "كنت إذا سمعت من الرجل الحديث, كنت له عبداً ما يحيا".
وعن مالك بن أنس - رحمه الله - قال: "وجه إلىّ هارون الرشيد يسألني أن أحدثه, فقلت يا أمير المؤمنين إن العلم يؤتى ولا يأتي, قال: فصار إلى منزلي, فاستند معي إلى الجدار, فقلت: يا أمير المؤمنين إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم, قال: فجلس بين يدي".
وقال أحمد بن حمدون: دخل هارون بن زياد ـ مؤدب الواثق ـ إليه, فأكرمه إلى الغاية فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا الفعل؟ فقال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله وأدناني من رحمة الله.
وعن أبي معاوية الضرير قال:"صب على بعد الأكل شخص لا أعرفه, فقال الرشيد: تدري من يصب عليك؟ قلت لا قال أنا إجلالاً للعلم".
وقال قتيبة بن سعيد: "قدمت بغداد, وما كان لي همة إلا أن ألقى أحمد بن حنبل فإذا هو جاءني مع يحيى بن معين, فتذاكرنا, فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يدي وقال أملِ علي هذا, ثم تذاكرنا, فقام أيضاً وجلس بين يدي فقلت: يا أبا عبد الله اجلس مكانك فقال: لا تشتغل بي, إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه".
وعن عمرو الناقد قال: "كنا عند وكيع, وجاء أحمد بن حنبل فقعد, وجعل يصف من تواضعه بين يديه قال عمرو: فقلت يا أبا عبد الله إن الشيخ يكرمك فما لك لا تتكلم؟ قال: وإن كان يكرمني, فينبغي لي أن أجله".
وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو, فلما كان يوماً أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه, فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له, فتنازعا أيهما يقدمه, فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فرداً, فقدماها, وكان المأمون له على كل شيء صاحب خبر, فرفع ذلك الخبر إليه, فوجه إلى الفراء فاستدعاه, فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين, قال: "بل قل إذا نهض, تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين, حتى رضي كل واحد أن يقدم له فرداً", إلى أن قال المأمون: وما وضع ما فعلا من شرفهما بل رفع من قدرهما, فليس يكبر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه, ووالده, ومعلمه العلم