الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فلقد أعطى الله -تعالى- لبعض رسله مزية خاصة به، يتميز بها عن غيره من الأنبياء والرسل، فمثلاً إبراهيم -عليه السلام- خليل الرحمن (والخُلَّة أعلى درجات المحبة)، وموسى -عليه السلام- كليم الله (أي: كلَّمه الله مباشرة بغير واسطة ملك)، وعيسى -عليه السلام- كان يُبرِئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله.
وقد جمع الله -تعالى- لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مزية كل نبي، فهو -عليه الصلاة والسلام- خليل الرحمن، قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ) رواه مسلم.
وكلمه الله -تعالى- مباشرة بلا واسطة ملك في المعراج حين عرج به إلى سدرة المنتهى، وجرت على يديه من إبراء الأكمة والأبرص والمداواة من أدواء كثيرة بإذن الله -تعالى- الشيء الكثير، بل تفوقت معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- على معجزة عيسى -عليه السلام- بإحياء الله له من لا روح فيه أصلاً كالحجر الذي كان يسلم عليه في مكة، وبكاء الجذع حنيناً إليه -عليه الصلاة والسلام- وغير ذلك.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه.
ولقد كانت شخصية وسيرة وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نفسها معجزة دالة على صدقه وعلى نبوته، حتى قال عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- حين رآه لأول مرة "فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب"، وقال حيي بن أخطب لأخيه أبي ياسر حين التقيا به لأول مرة بعد هجرته -عليه الصلاة والسلام- "أهو هو؟" أي: هو النبي الذي بشرت به التوراة.
وقد شهد له الكفار أنفسهم وأعداؤه حتى قال واحد منهم: "لقد قدمت على الملوك وقدمت على كسرى وقيصر والنجاشي، فما رأيت أحداً يحب أحدً كحب أصحاب محمد محمداً"
وما شهدت الدنيا اهتمام أتباع نبي بنبيهم مثل اهتمام صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- به، حتى نقلوا كل كبيرة وصغيرة ودقيقة في حياته، بل نقلوا كيف يمشي، وكيف يضحك، وماذا كان يلبس، وكذلك كان اهتمام المسلمين عامة به وبسنته وشرعه -عليه الصلاة والسلام-.
وكانت أعظم معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- إنزال الله عليه القرآن الكريم، كلام الله -تعالى- الذي قال فيه علي -رضي الله عنه-: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم"
بل كان الكفار يتواصون أن يعرضوا عنه وعن سماعه، ومع ذلك كانوا يستخفون من بعضهم ليسمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتمالك أحدهم نفسه من روعة وحلاوة وبلاغة القرآن حتى قال: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر". والفضل ما شهدت به الأعداء
- ومن معجزاته ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْضِى حَاجَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: انْقَادِي عَلَىَّ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِى يُصَانِعُ قَائِدَهُ حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: انْقَادِي عَلَىَّ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لأَمَ بَيْنَهُمَا - يَعْنِى جَمَعَهُمَا - فَقَالَ: الْتَئِمَا عَلَىَّ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَالْتَأَمَتَا) رواه مسلم.
- ومنها حلول البركة في الشاة الهزيلة التي خلفها الجهد عن الخروج مع الغنم، فحلب منها فشرب هو وأبو بكر أم معبد، وترك لزوجها من اللبن، وقصتها مشهورة في هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- ومنها سلام الجمادات عليه -صلى الله عليه وسلم-.
روى الترمذي عن علي -رضي الله عنه- قال: (كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بِمَكَّةَ فَخَرَجْنَا فِى بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلاَ شَجَرٌ إِلاَّ وَهُوَ يَقُولُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قال الألباني: صحيح لغيره.
- ومنها تكليم الشاة المسمومة له -صلى الله عليه وسلم-، فما فتحت خيبر أهدت امرأة من اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- شاة ودست فيها السم، وسألت عن ما يحبه الرسول منها، فأخبروها أنه يحب الذراع فملأته بالسم، ووضعت الشاة أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحب له، فلما نهس منها نهسة قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِى أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ) قال الألباني: حسن صحيح.
- ومنها تسبيح الحصى في يده -صلى الله عليه وسلم- وسماع الصحابة له، وذلك أن أبا ذر تبع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً فجلس فتناول -صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات أو تسع حصيات فسبحن في يده. قال أبو ذر: حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، وسمعها من كان عنده ثم وضعهن فخرسن