7- أسباب النعيم
1- الإخلاص، وهو لب الأعمال، وسبب عظيم من أسباب الراحة والطمأنينة، والسعادة واللذة؛ لأن المخلص يعامل عالم الغيب والشهادة، الذي لا تخفى عليه خافية، وهو قادر على كل شيء، يعطي على الكثير والقليل، عطاء لا ينفد ولا ينقطع، فيطمئن القلب، وتهدأ النفس، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً}.
قال داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به خيرًا، وإن لم تنصب(18).
2- القناعة والرضى.
القانع لا يمد بصره إلى غير ما هو فيه، ولا يُعلِّقُ قلبه بما لا يمكن حصولُه، أولا فائدة في جمعه وكنزه، فإن التطلع إلى الدنيا وحطامها الزائل يفسد القلب، ويورث القلقَ وعدمَ الرضى، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}.
واغضضِ الطرفَ تسترِحْ من غرامٍ *** تكتسي فيه ثوبَ ذُلٍ وشَيْنِ
فبلاءُ الفتى موافقةُ النفـسِ، وبِدْءُ الهوى طموحُ العينِ
والقناعةُ هنا ليس المرادُ بها سقوطَ الهمة، أو عدمَ طلبِ الكمال، ولكنَّ المقصودَ بها القناعةُ بمتاع الدنيا وزينتها، والرضى بما قدره الله على العبد، وعدم فعل الحرام لجلب الرزق أو السعادة.
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ‘ يَقُولُ: ((طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنَعَ))(19).
قال أبو مسلم الخولاني: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثقَ مما في يديك، وإذا أُصِبْتَ بمصيبةً كنت أشد رجاءً لأجرِها وذُخْرِهَا، من إياها لو بقيت لك(20).
3- التفكر في العاقبة، وفي مآل هذه الدار الفانية.
لا يستطيع أي عاقل أن ينكر تأثير الدنيا، وأنها حلوة وجميلة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بذلك، لكن التفكر في حقيقة الدنيا، يعين على الزهد فيها، وعدمِ التعلق بها، ويعين على هذا التفكر أمران:
أحدهما: أن تنظر في الدنيا وسرعةِ زوالها، وفنائها واضمحلالها، ونقصها وخِستها، وأَلَمِ المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخرُ ذلك الزوالُ والانقطاع، مع ما يعقُبُ من الحسرة والأسف؛ فطالبها لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحُزْنٍ بعد فواتها.
الثاني: أن تنظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، فهي خيرات كاملة دائمة، والدنيا خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة(21).
كان أحد العباد الزهاد يسير في طريقه فأبصر امرأة جميلة، فأعجبته ووقع في حبها، ووقعت هي في حبه، فتقابل الحبان، فقادته رجلاه إليها يومًا فخلا بها؛ فقالت: إني والله أحب أن أضع ثغري على ثغرك، فقال: وأنا كذلك، قالت: وأن أضع صدري على صدرك، فقال: وأنا والله، فقالت: وما يمنعك من ذلك، وليس ههنا أحد إلا أنا وأنت، فقال يمنعني قول الله تعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)} [سورة الزخرف 43/67]، فقام وتركها، ولم يعد إليها.
كيف يغتر الإنسان بصحته، وينسى دنو السَقَم؟! ويفرح بعافيته، ويغفَلُ عن قريبِ الألم؟! ويطغى بغناه فيخالف أمر ربه الذي أعطاه وأغناه، ولو شاء لحرمه وأقناه؟! ألم يُرِه مصرَعُ غيرِه مصرعَه؟! ألم ير الموت قد حل بساحة جاره، فهو عما قليل سيحل بساحته؟!
كأنك لم تسمعْ بأخبارِ مَنْ مضى *** ولم ترَ في الباقين ما يصنعُ الدهرُ
فإن كنت لا تدري فتلك ديارُهم *** محاها مجالُ الريح بعدك، والقبرُ
فمن راقب عواقِبَ الأمور سلِم في النهاية، ومن أشغله التلذذ بالمحسوس، ومال مع هواه ندم حين لا ينفع الندم.
4- مخالفة الهوى.
إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباعَ الهوى، كانت نهايته الذلَّ والصغار، والحرمانَ والبلاء، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يُعذَّبُ به في قلبه، كما قال القائل :
مآربُ كانت في الشباب لأهلها *** عِذاباً، فصارت في المشيب عَذاباً
ومن كانت بدايتُه مخالفةَ هواه، وطاعة داعي رشده، كانت نهايته العزَّ والشرف، والغنى والجاه عند الله وعند الناس.
قيل للمهلب ابن أبي صفرة: بِمَ نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم، وعصيان الهوى.
قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباعُ الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق(22).
فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه(23).
قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [سورة النازعات 79/37-41].
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
------------------------------------------
(1) انظر: تفسير ابن سعدي (914).
(2) السابق.
(3) انظر: قاعدة في المحبة، جامع الرسائل (2/322).
(4) القاموس المحيط (1162).
(5) قاعدة في المحبة، جامع الرسائل (2/322- 324).
(6) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/221، ط 7، 1419، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف). والحديث رواه أحمد عن عقبة بن عامر، وفي إسناده رشدين ابن سعد أبو الحجاج، ضعفه أهل الجرح والتعديل.
(7) نقله ابن القيم في الزاد (5/587) عن القاضي إسماعيل.
( المصدر السابق (150).
(9) فيه لغتان؛ إحداهما: أنه من باب نَصَر، والثانية: أنه من باب فَهِم. انظر: مختار الصحاح (445، مادة فضل).
(10) هذه الزيادة ليست في صحيح البخاري، ولكن رواها ابن جرير في تاريخه عن محمد بن إسحاق.
(11) هذه الرواية في صحيح البخاري.
(12) رواه البخاري.
(13) هذا لفظ مسلم.
(14) انظر: جامع العلوم والحكم (1/472- 473).
(15) ويجوز بكسر الدال، كعلم يعلم.
(16) انظر: تفسير ابن سعدي (287).
(17) رواه النسائي 7/61، وأحمد 3/128، 199، 285، من حديث أنس، وراه الحاكم من طريق آخر، وصححه، ووافقه الذهبي.
(18) جامع العلوم والحكم (1/70).
(19) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد.
(20) رواه الإمام أحمد في الزهد، ورواه الترمذي وابن ماجه مرفوعًا، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: والصحيح وقفه.
(21) الفوائد لابن القيم (87).
(22) روضة المحبين (479).
(23) ذم الهوى (483).
_________________
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين اماما
نورالاسلام الطبى
اقوى قسم لتطوير المنتديات ونشرها بمحركات البحث
اقوى برنامج حقيقى لجلب الزوار
منتدى طبى اسلامى منوع حصريات رياضيه تطوير مواقع برامج كمبيوتر
[/center]