هل أنا منهم؟!
يمر بالمرء منا مواقف تجعله يعيد النظر في حياته بأسرها، وتجعله يرى الدنيا بمنظارٍ مختلف عما اعتاد أن يرى به الكون كله، منظار مكبر للحقائق التي رُبما ظلت سنوات بعيدة عن ناظره، أو رُبما هو الذي أبعدها عن ناظره بكامل إرادته!!، وعندما يرى الأشياء بحجمها الحقيقي يندم أنه قد حُرم سنوات من عمره من نعمة البصر... بل قُل البصيرة، نعم... البصيرة {فََإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]
ليلتها حاولت أن أنام جاهدة ومرت ساعات طوال ولكني ظللت متيقظة في فراشي، لا أعلم لماذا؟ رُبما كنت أشعر بداخلي أن هذه الليلة سيكون لها أثر في حياتي كلها، ربما هي نفسي التي أصبحت تشعر أنها تحيا حياة ملؤها التناقض والانفصام في الشخصية، ربما شعرت أني بحاجة إلى أن أتصالح مع نفسي، بل مع الدنيا وأشعر بلذة عبوديتي لله... لذة لا يضاهيها لذة، وحياة لا تضاهيها حياة.
وكان من عادتي أني إذا جنّ الليل وأسدل ستره وهدأت الأصوات ووجدت نفسي وحيدة، ضعيفة، لجأت إلى الصلاة و القرآن... كنت أشعر بلذة عجيبة بهم في هذا الوقت المتأخر، كنت كلما قرأت القرآن في هذا الوقت أشعر وكأني أسبح مع الكون كله، أشعر وكأن قلبي قد نُقيَّ من كل ما علق به من شوائب طوال اليوم وكأنّي رزقت قلباً جديداً.
فتحت القرآن وبدأت أقرأ من سورة البقرة (1) حتى قرأت {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} فشعرت وكأنّي أقرأ هذه الآيات لأول مرة، رغم أني قد قرأت هذه الآيات من قبل مراراً وتكراراً لكن لم أشعر بكلماتها قط إلا من هذا اليوم، وسألت نفسي: تُرى من هم هؤلاء القوم الذين يدعون الإيمان؟! ؟ الآيات بالطبع تتكلم عمن في قلوبهم نفاق اعتقادي وليس عملي؟ ولكن رغم هذا كله هل يمكن أن يكون هناك أحد من المسلمين به بعض صفاتهم؟ هل يمكن أن يكون هناك من يقول بلسانه أنه مؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن كذب هذا بعمله، فحاله كمن لا يؤمن أن هناك ربا رقيبا يرى ويسمع، حاله كأنه سيخلد في الدنيا يرتع ويلعب ونسي أنه سيموت يوما، ظلم في الأرض وتجبر ونسي أن هناك يوما سيحاسب فيه؟ نسي أن الله الذي يراه ويسمعه، الذي خلقه فلا يخفى عليه أمره هو من سيحاسبه، نسي أن هناك نارا تلظى لمن عصى وأدبر وأن هناك جنات النعيم لمن أطاع وأذعن.
و ذهبت أتلو الآيات: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} وبدأت نفسي تمتلأ كرهاً لهذه النوعية من البشر_الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام_ لما بهم من لؤم ومكر وخداع، شعرت بأنهم أحقر ما في الوجود، لماذا يعيشون بوجهين...كم أكره المنافقين...ولكن أليس هناك من يدعي الالتزام والإيمان والورع والتقوى ليرضي الناس وليس في قلبه من هذا شيء؟ أليس هناك من يتشبع بما لم يعطى ويلبس ثوب زور؟ فتعظيم الناس في قلبه ورضاهم أهم من تعظيم الله ورضاه، ما يهمه هو أن يقول الناس عنه تقي وملتزم ولا يهمه ماذا يقول الله عنه؟ صورته أمام الناس أهم عنده من صورته أمام الله.
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} في قلوبهم مرض، بالتأكيد ليس مرضاً عضويا ولكن مرضاً حسياً، وكم هو عضال هذا المرض عندما يملأ القلب ويصيب جميع البدن، بل يصيب الروح، فيصبح الجسد قبرا للقلب، وإن كان مرضهم مرض اعتقاد، فكم من المسلمين أصبحوا موتى وهم أحياء، كم من المسلمين من يمتلئ قلبه نفاقا ورياء وعجبا وكبرا وطمعا، فيموت القلب و الجسد حي، بل و يهلك هذا القلب صاحبه وينسيه رب الأرض والسماوات، ويجعل صاحبه يتألم و يهزل من شدته يوما بعد يوم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ{11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} وهنا يظهر مدى طمس البصيرة التي لم تعد تفرق بين المعروف والمنكر، ولكن للأسف أصبح كثير من المسلمين هكذا أصبح هناك من يحلل الحرام ويحلل الحرام ويتحايل على الشرع، أصبح هناك من يمشي بالنميمة والغيبة والوقيعة والبهتان والكذب ويظن نفسه ممن يحسنون صنعا، أصبح هناك من يأخذون الربا والرشوة ويحسنون النصب والخداع ويسمونها بغير اسمها ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، والله يمكر بهم جزاء مكرهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، وشرد ذهني بعيداً... بعيداً عن الآيات وشعرت فجأة أنها تتكلم عنّي، مر شريط حياتي كله أمامي وبدأت أتخيل نفسي منهم، تذكرت يوم أخذت من شرع الله ما يروق لي وتركت ما لم يرق لي بحجة أن هذا هو الأصلح لهذا الزمان، نعم... نحن لسنا في زمان الصحابة وليس هذا هو العصر الذي يمكن أن يطبق فيه الدين بحذافيره،فما أفعله هذا هو الخير كله... نعم، قالوا إنما نحن مصلحون!!!!
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} كم سخر الكفار من المسلمين وضحكوا عليهم فهذا دأبهم، حتى في زماننا هذا نجد من يسخر من الدين ومن الملتزمين ويضحك عليهم ويظنهم لا يفهمون الدنيا والواقع، يظنهم سفهاء لا يعملون للدنيا ولا يحسنون تجارتها، ولكن نسى هؤلاء أن التجارة الحقيقية هي التجارة مع الله، هي التجارة التي لن تبور أبدا، ولكن هذا النوع من البشر سفيه لا يفهم الدنيا ويظن أنه يفهمها، يظن أنه فطن يعلم كيف يأخذ المال ويصل للسلطان و الجاه ولو على حساب أخلاقه ودينه بأي وسيلة كانت ومن أي مصدر، نعم سفيه وسيعلم ذلك عندما تبلغ الروح الحلقوم ويتخلى عنه المال والجاه والسلطان و لا يجد وقتها عملا صالحا يقابل به ربه بل يجد الجحيم والغسلين، نعم... إنه سفيه من يعبد الله على مراده هو و ليس على مراد الله، نعم سفيه، سفيه من تخيل أن في نفسه الحكمة والذكاء الذي يستطيع به أن يمسك العصا من المنتصف ويرضي جميع الأطراف، سفيه من اعتقد أنه أحكم من الحكيم في حكمه وتشرعيه، سفيه من اتخذ إلهه هواه.
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} نعم يحسنون التلون، ويجيدون النفاق والتمثيل، والآن هناك من يفعل هذا، مع أهل الدين تجدهم صالحين، ومع أهل الدنيا طالحين، يقابلون الشيوخ بالورع والتقوى، فإذا خرجوا من المساجد خلعوا ثوب الدين ولبسوا ثوب الدنيا، فانتهكوا المنكرات واقترفوا الموبقات، إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها وما حفظوها، يالله... هل القرآن يعلم طبيعة النفوس بهذه الدقة... يا إلهي إنها أنا من تتكلم عنها الآيات، لا... هل يمكن أن أكون أنا؟!! نعم، إنها أنا... إنها أنا من أُظهرت الإيمان لأهل الإيمان وأُظهرت عكسه أو على الأقل لا أنكر على أهل الفساد وقوعهم في حد من حدود الله... أريد أن أرضي جميع الأطراف... ما لله لله، وما لقيصر لقيصر... كنت أقول لنفسي، هل أنا من سيُصلح هذا الكون؟ سأخسر معارفي وبعد هذا ماذا سأجني غير الوحدة والغربة ووقف مصالحي؟؟ أجل إنها أنا من تتكلم عليه الآية... كم أنا متناقضة الشخصية؟؟!
ثم قرأت {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} للأسف لم يلعبوا اللعبة صح ولم يفهموا حقيقة الدنيا وأنها دار ابتلاء واختبار فهي ولابد إلا زوال وأن الآخرة هي دار القرار، ورب العباد محال وكلا أن يخدعه أحد، فخسرت تجارتهم وعلموا أن الدنيا كانت سراب، فانهرت وقتها باكية... هل انتهت فرصتي... هل تستحق الدنيا مني أن أخسر الذي خلقني؟ هل تستحق الدنيا والمعارف والأصدقاء أن يسخر مني خالق السماوات؟ كم كنت سأخسر إن لم أفق من هذه الغفلة؟؟!!
وملأ وقتها آذان الفجر الكون كله مؤذناً بفجر يومٍ جديد، وحياة جديدة يملؤها حب الله وحده ولا شيء غيره، ومتابعة رضاه وحده وليس أحداً من البشر.
عن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء منزله بحمص، فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت: غفر الله لك يا أبا الدرداء، ما أنت والنفاق؟ قال: (اللهم اغفر ـ ثلاثا ـ، من يأمن البلاء؟! من يأمن البلاء؟! والله إن الرجل ليفتتن في ساعة فينقلب عن دينه).
اللهم إنا نعوذ بك من الكفر و النفاق.
_________________
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين اماما
نورالاسلام الطبى
اقوى قسم لتطوير المنتديات ونشرها بمحركات البحث
اقوى برنامج حقيقى لجلب الزوار
منتدى طبى اسلامى منوع حصريات رياضيه تطوير مواقع برامج كمبيوتر
[/center]