الوصية الأولى
تمهيد:
* من إعجاز القرآن الكريم أن يخاطبنا في كل زمان، وكأنما قد نزل في هذا الزمان، وعايش أحداثه حال وقوعها.من ذلك يرى المتدبر أن ما حدث من عدوان غاشم من اليهود على إخواننا في غزة مطلع عام 2009م، وما سبقه وصاحبه من أحداث، كأنما يحدثنا عنه القرآن الكريم في عدة سور؛ كالبقرة والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والحشر، لكن السورة الأكثر وضوحًا في هذا الأمر هي سورة آل عمران، كما سنرى في هذا العمل.
* وقد أشار إلى صلة أحداث غزة بسورة آل عمران وغزوة أُحُد غير عالم من علماء المسلمين؛ كالدكتور عبد الحي الفرماوي(1) والدكتور جمال المراكبي؛ الرئيس العام لجماعة أنصار السنة في مصر(2).
وننصح القارئ الكريم قبل الشروع في قراءة هذا العمل أن يفتح أمامه هذه السورة الكريمة؛ للمساعدة على استحضار المعاني التي سنتطرق إليها بإذن الله تعالى.
* ومن إعجاز القرآن الكريم كذلك أن تلخص آية واحدة سورة بأكملها أو تكون فارقة بين قسمين رئيسين منها؛ كآية آل عمران (138) التي تصدرت عملنا هذا، فإننا لو تأملنا هذا التذييل وهذه الآية الكريمة لوجدنا لها أشباهًا في مواضع عديدة في كتاب الله تعالى مثل:
- قوله تعالى في سورة الأعراف: {.. هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) }.
- وقوله تعالى في سورة إبراهيم: { هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}.
- وقوله تعالى في سورة الأعلى: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) }.
ولو تدبرنا الآيات الكريمات السابقة وأشباهها لوجدنا أنها تأتي غالبًا في أواخر السور، وإن جاءت متقدمة عن ذلك قصد بها كل ما تقدم من السورة؛ مثل قوله تعالى في سورة (صلى الله عليه وسلم): {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) }، حيث أنهت الكلام عن ذكر قصص المتقين؛ الذي كثيرًا ما يعبر عنه بالذكر؛ كسورة مريم حين عبر عن قصة النبي زكريا بالذكر : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } [مريم : 2]؛ أي أن الآتي من القرآن هو قصة ( ذكر) النبي زكريا، ولم يقل: هذا ذكر النبي زكريا كحالتنا؛ لأن هذه الصياغة تعني ما مضى من السورة لا ما يأتي، وبدأ بعدها الاستفاضة في الكلام عن مآلهم عند الله ( حسن المآب )، وكذلك مآل أضدادهم في الآخرة.
* أي أن القسم الأول من الآية 49 من سورة ص - قبل حرف العطف - لخص القسم الأول من السورة، كما لخص القسم الثاني منها القسم الثاني من السورة، {..وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49)} فكأن هذه الآية هي مركز سورة ص وملخصها.
وقد رأى أغلب المفسرين أن اسم الإشارة: { هَذَا } في هذه المواضع إن لم يقصد به القرآن نفسه لكان المقصود به ما تقدم من الآيات السابقة لها من أول السورة.
إذًا الآية المعنية - ( آل عمران : 138) - تلخص ما قبلها، فما هو ما قبلها؟ وتمهد لما بعدها، فما هو بعدها؟.
ما قبلها هو قسمان من ثلاثة أقسام رئيسة لسورة آل عمران وهي:
1 – "فضح خطايا ونوايا أهل الكتاب".
2 – "وصية لعدم الوقوع في العنت المرجو من أهل الكتاب " ( وتنقسم لوصايا فرعية ).
وأما ما بعد الآية الرئيسة فهو القسم الثالث من السورة وهو : "موعظة لما بعد القرح المتسبب فيه أهل الكتاب".
أي إن تقسيم السورة موضوعيًّا كالآتي :
القسم الأول: فضح خطايا ونوايا أهل الكتاب ( الآيات 19 : 99 ).
القسم الثاني: وصية لعدم الوقوع في العنت المتسبب فيه أهل الكتاب وينقسم إلى :
أ ) وصية فرعية لما يختص بأهل الكتاب ( الآيات 100 : 115 ).
ب ) وصية فرعية لما يختص بالمنافقين ( الآيات 116 : 128 ).
جـ) وصية فرعية لما يختص بالتقصير الذاتي ( الآيات 130 : 137 ).
القسم الثالث: وصية ( موعظة ) لما بعد القرح ( الآيات 138 : 200 ).
وفي عملنا هذا نتكلم أولًا عن القسم الأول من السورة ثم الوصية الأولى من الوصايا الأربعة سالفة الذكر.
القسم الأول: فضح الخطايا والنوايا: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ }
بيان وإيضاح خطايا أهل الكتاب، وتصحيح الأخطاء في مجالات العقيدة والشريعة والقصص عندهم، وإظهار مدى عدائهم للمسلمين وكيدهم لهم، وبيان أن أكبر جرائمهم هي كتمان ذكر الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام في كتبهم. وقد ذكر تعالى أن هذا القسم فضح هؤلاء العصاة للناس كافة لا المسلمين فحسب: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ }.
وقد استغرق هذا القسم حوالي نصف السورة، من بداية السورة حتى الآية (99)، وإن شئنا الدقة فإن الثماني عشرة آية الأولى كانت بمثابة التمهيد له، ثم كانت البداية الحقيقية لهذا القسم في الآيتين ( 19، 20 ) ذكر فيهما مصطلح "الإسلام" أربع مرات، حيث بدأ بإنكار أهل الكتاب الإسلام، وهم يعرفون صدق نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم أعاد القرآن الكريم ذكر جريمتهم هذه في وسط الفقرة ( الآية 67 )، ثم في أواخرها ( الآيات 83: 86 ) حيث ذكر فيهن مصطلح " الإسلام " ثلاث مرات.
* وقد كان التمهيد في الثماني عشرة آية الأولى مناسبًا جدًّا لموضوع السورة ككل وذلك بذكر التوراة والإنجيل؛ وهما كتابا أهل الكتاب الذين تتحدث السورة عن نواياهم وخطاياهم. { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) }، ثم كان مناسبًا كذلك لموضوع القسم الأول ( فضح خطايا ونوايا أهل الكتاب ) من ناحيتين.
أولًا: بذكر استحالة إخفاء شيء على الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) } وهذا يناسب موضوع الفقرة من كشف المخفي؛ فقد علم وقدر ما يحدث في الأرحام فكيف لا يعلم سرائر الناس؟ ثم أكد تعالى على هذا الأمر – ألا يخفى عليه شيء - في ثنايا آيات القسم الأول من السورة: { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) }.
ثانيًا: بالدعاء: { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( } لأن البيان - الذي هو موضوع القسم الأول من السورة - هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة المذكورة في الآية السابقة ورفع الزيغ والالتباس والهداية إلى وضوح الأمر بعد الضلالة.كما مهدت هذه المقدمة لأول موعظة في القسم الثالث من السورة ( موعظة ما بعد القرح ) بقوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ... (13) } يقصد غزوة بدر؛ فكأنما يمهد بهما لقوله تعالى في القسم الثالث: {.. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.. } ومهدت كذلك للحث على الجهاد المذكور في وصية القسم الثالث من السورة ( الآية 146 ) والآيات (156 – 158 ), مهدت له بالآيات (14, 15 ).