وإذا كان ركاب الطائرة على صغر حجمها وعلى مدى قربها من الأرض لا يكادون يحسون بحركتها فإن سكان الأرض أولى بمثل هذا الشعور فهم يرون الأرض ساكنة تمام السكون ولا يوجد فيها ما يوحي بأنها تتحرك أبدا. ولهذا السبب فقد بقي البشر حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي يعتقدون أن الأرض هي مركز هذا الكون وأن جميع ما فيه من أجرام تتحرك حولها وهي ثابتة لا تتحرك أبدا كما توحي بذلك حواسهم. وبناءا على هذا الاعتقاد قام الفلكي الإغريقي بطليموس في القرن الثاني الميلادي بوضع أول نموذج يفسر حركات الأجرام السماوية المختلفة كالشمس والكواكب وبقية النجوم وتنص نظرية بطليموس على أن الأرض كروية الشكل وهي ثابتة في مركز الكون وتدور السماء وجميع الأجرام السماوية حولها على أبعاد ثابتة من بعضها البعض باستثناء بعض الأجرام التي تدور بعكس هذه الخلفية في مسارات تبدو متمردة.
وبقي نموذج بطليموس هو المعمول به في علم الفلك حتى ظهر الفلكي الشهير كوبرنيكس في القرن السادس عشر وقرر أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية وتدور الكواكب بما فيها الأرض حولها.
لم يبني كوبرنيكس نظريته من فراغ بل اعتمد على كم هائل من الدراسات الفلكية التي أجراها العلماء من قبله وخاصة علماء المسلمين الذين استلموا قيادة المسيرة العلمية في العصور الوسطى.
فقد انتقد ابن الهيثم في القرن الحادي عشر من ناحية رياضية بحته نموذج بطليموس في مقالة له "شكوك حول بطليموس" وقال أنه نموذج غير قادر على تفسير كثير من الحركات الفلكية ولا بد إذا من تطويره.
وقد صرح البيروني كذلك في القرن الحادي عشر بأن الأرض تدور حول محورها وتدور كذلك مع بقية الكواكب حول الشمس حيث يقول بكل صراحة في كتابه "الآثار الباقية في القرون الخالية" "ليست الشمس هي سبب تفاوت الليل والنهار بل إنّ الأرض ذاتها هي التي تدور حول نفسها وتدور مع الكواكب والنجوم حول الشمس" ولكنه عاد ليقول بأن مثل هذا القول قد لا يصلح لأننا لا نكون في موضع نتمكن من التحقق من حقيقة هذا الدوران.
وقد قام بعض علماء الفلك المسلمين أمثال نصير الدين الطوسي ومؤيد الدين الأوردي بتطوير نماذج فلكية تتفوق في قدرتها على تفسير حركة الكواكب من نموذج بطليموس وهي عبارة عن دوائر متداخلة تدور حول الأرض أُضيف إليها دوائر مركزها خارج الأرض ودوائر أصغر مراكزها متحركة.
وقد قام العالم الفلكي الفذ ابن الشاطر الدمشقي في القرن الرابع عشر ببناء نموذج معقد كانت الشمس فيه مركز لحركات الكواكب وتتحرك هي بدورها حول الأرض وقد تمكن هذا النموذج من تفسير معظم الحركات الفلكية التي فشل نموذج بطليموس من تفسيرها وهو أقرب ما يكون للنموذج الذي وضعه كوبرنيكس فيما بعد وقد نشر نتائج أبحاثه في كتابه "تحرير نهاية السؤال في تصحيح الأصول".
وفي عام 1543م نشر كوبرنيكس نظرية جديدة تقول أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية وأن الكواكب بما فيها الأرض تدور حولها في مدارات مستقلة وأثبت كذلك أن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة كل 24 ساعة فينتج عن ذلك ظاهرة الليل والنهار بينما تدور حول الشمس مرة كل عام مما ينتج عنها ظاهرة تغير الفصول.
|
لوحة قديمة كوبرنيكس الفلكي المشهور |
لقد قابل عامة الناس إدعاءات كوبرنيكس حول حركة الأرض بالسخرية بل تجاوز الأمر حد السخرية وقررت الكنيسة محاكمة كوبرنيكس وكل العلماء الذين يرون رأيه واتهموهم بالزندقة والكفر وقاموا بمصادرة وإحراق أبحاثهم ففر كوبرنيكس من روما حتى لا يتم القبض عليه وإلا كان مصيره الإعدام أو الحرق كما حدث لبعض العلماء.
وفي مقابل هذه السخرية من قبل عامة الناس كانت فرحة علماء الفلك بهذه النظرية غامرة فقد حلت هذه النظرية عدد لا يحصى من الألغاز التي كانت تحيرهم حول حركة الأجرام السماوية وخاصة كواكب المجموعة الشمسية.
إن الإثبات المباشر بأن الأرض في حركة دائبة حول محورها وحول الشمس لا يمكن أن يتم من قبل البشر وهم يعيشون على سطحها فلا بد لهم من الخروج خارج نطاقها ويقفوا على مرجع إسناد جديد ليتأكدوا من مثل هذه الحركات وهذا ما تم بالفعل في عصرنا هذا حيث تم مشاهدة الأرض وهي تدور حول محورها من قبل رواد الفضاء وهم على القمر أو من قبل كمرات المركبات الفضائية التي إرسلت للفضاء الخارجي.
أما كوبرنيكس فقد استخدم المنهج الاستقرائي (الإستدلالي) لإثبات أن الأرض تدور حول محورها وحول الشمس من خلال دراسة حركات الأجرام السماوية التي تملأ الفضاء من حولنا. إن منتهى العبقرية أن يكذب الإنسان حواسه التي توحي له بأن الأرض ساكنة لا تتحرك ويصدق الحسابات الرياضية التي تثبت أن الأرض في حركة دائبة. وليس الفضل في هذا للبشر بل الفضل كل الفضل لله الذي خلق هذا العقل العجيب الذي يستخدمه البشر لكشف أسرار هذا الكون.