وهذا الذي قلناه يجب أن يكون معلوماً مشاعاً لكل الناس؛ إذ العلم بهذا كفيل بدعم الوافد الجديد على المجتمع والبيئة الصالحة لتحمل الصدمات التي قد يصادفها، حين يرى في الأشخاص الذين كان يعدّهم صفوة الخلق وخلاصة الناس، ما لا يتفق مع تلك الصورة الخيالية المغرقة في المثالية.
كما أنّ هذا سيريح الناس من القيل والقال الذي يدور كلّما كشف الزمان خبايا بعض الصالحين من دعاة أو قضاة أو علماء حتّى؛ فقد اعتدنا أن يطير بهفوات الصالحين وزلاتهم بعض المجموعات الشاذّة عن الأمّة، ذلك لأنّها تظنّ أنّ الدعاة أو العلماء يقدمون أنفسهم كما يقدّم الرهبان والقساوسة أنفسهم في النصرانية، على أنّهم أفراد سامون فوق مستوى النزعات البشرية، وأنّه يُفترض فيهم ألاّ يقعوا في ما يستحق الذم والعقاب.
وهذا تصور خاطئ؛ فالعقيدة السلفية امتداد لمنهج الصحابة الكرام الذين كانوا يقدمون أنفسهم على أنّهم دعاة وهداة، مع أنّ بعضهم كان واقعاً في بعض تلك النقائص البشرية، فمنهم من شرب الخمر، ومنهم وقع في الزنا، ومنهم من اقتتل على أمور من الدنيا بنوع تأويل وغير ذلك، ومع هذا فهم الصفوة، وهم الخيرة من خلق الله؛ لأنّهم أصلاً لم يدّعوا عصمة من الزلل.
يجب أن يعلم الجميع أنّ توبة العبد ورجوعه إلى الحق بعد ضلال الشهوة أو الشبهة لا يعني أنّه انتقل من عالم الشياطين إلى عالم الملائكة، بل غاية الأمر أنّه انتقل من عالم بشري إلى عالم بشري أفضل منه وأقرب إلى الله، ولا يعني ذلك بالضرورة أنّه أصبح في حيّز السلامة المطلقة، بل إن لم يحفظه الله وإلاّ فكما قال تعالى مؤدباً صحابة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ). [النساء: 94].
فلا عجب إذن أن تصلي خلف إمام يبكي قبل أن يبدأ بالفاتحة فإذا انتهت الصلاة وقع في أعراض النّاس بغير حق، نعم لا عجب فهذا هو البشر، لا أقول إنّه لا تناقض، بلى إنّه كذلك، فالخوف الحقيقي ليس بذرف الدموع، وإنّما هو ذلك الذي يحجز صاحبه عن المعصية، وإنّما غرضي أنّه لا تناقض بين ولايته وتقواه وبين وقوعه في الخطيئة؛ لأنّه ليس بمعصوم.
ولا عجب أن تسمع العالم يشرح حديث الزهد والورع، ثم تراه بعد ذلك يستحلّ أنواعاً من البيوع المحرمة أو المشبوهة بنوع تأويل، نعم لا عجب؛ فهو في النهاية بشر.
ولا عجب - أخيراً – أن تخالط الأخيار من علماء أو دعاة، فترى منهم الظلم لبعضهم البعض، وترى التحاسد والتنافس غير الشريف، نعم لا عجب؛ فهم في النهاية بشر.
كلّ هذا لا أقوله دفاعاً عن الخطيئة ولا تسويغاً للمخطئ، وإنّما تقريراً لحقيقة تغيب عن كثير من الناس، ويجهلونها فتكون الصدمة بسبب الجهل بها سبباً في السقوط، ومن ثمّ الرجوع إلى حالة من العداء للدين وأهله بكافة شرائحهم من علماء ودعاة، وعادة ما تجد الحجة التي يرتكز إليها هؤلاء في تسويغ وتطبيع انحرافهم وسقوطهم هو ما علموه بسبب قربهم من الواقع الدعوي أو الجهادي من مخازٍ أو نقائص لا يسلم منها بشر، والأخطر أنّ هؤلاء تتلقفهم الجهات المعادية للدين، وتفتح لهم المجال للبوح والكلام بأمور لا تخفى على أهل العلم، ولا يعجبون لها، لكنّها عند هؤلاء صيد ثمين يستغلونه للطعن والتشويه والصدّ عن سبيل الله، منتفعين كثيراً بما يلقيه عليهم المتساقطون.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصدر : الإسلام اليوم