الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد جعل الله الدنيا دار ابتلاء والآخرة دارَ جزاء، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)(محمد:31).
ومن أشد الفتن على النفس فتنة الجهاد بالنفس: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)(البقرة:216).
ولكن المؤمنين الصادقين يجاهدون أنفسهم ويوطنونها على المسارعة إلى الاستجابة في المنشط والمكره، فيستجيبون لله استجابة صادقة.
وتاريخنا مليء بصور الاستجابة الصادقة من الرجال والنساء، وانظر إلى الخنساء التي مات أخوها في الجاهلية فرثته بمراثٍ جعلتها تلقب بشاعرة العرب، بينما تُقَدِّم أبناءها الأربعة في موقعة واحدة وتقول: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعاً في سبيل الله، ونصرة دينه، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"، فلم يصبها في ذلك أدنى جزع.
وكيف تجزع وهي التي أججت حماستهم بتلك النصيحة البليغة التي أسدتها لهم ليلة المعركة حيث نصحتهم قائلة: "يا بَنيّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا أصبحتم غدا -إن شاء الله- سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وحلت نارًا على أوراقها؛ فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها (جيشها)؛ تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة".
وفي الصباح تقدموا الصفوف يحركهم إيمانهم، وتدفعهم وصية الأم الصالحة، فجاهدوا جهاد الفاتحين الشجعان، وتلقوا الموت فرحين مسرورين، ومن ورائهم كان سرور أمهم بجهادهم.
وحتى مع حالات العجز فالمؤمن مطالب بأن يبقى عزم قلبه معقودا على الاستجابة الفورية متى وجد إلى ذلك سبيلا، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ) رواه مسلم.
بل إن حالة العجز أشق على نفوس المؤمنين من حالة القدرة، ولذلك استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه من العجز، واستعاذ من قهر الرجال.
وانظر إلى قصة البَكَّائين السبعة في غزوة تبوك، تَعْلَمْ كيف يكون ألم العجز على أصحاب القلوب الصادقة.
- رُوي عن ابن عباس: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرَ الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه، فيهم عبد الله بن مُغَفَّل المزني، فقالوا: يا رسول الله، احملنا، فقال لهم: "والله لا أجد ما أحملكم عليه"؛ فتولوا ولهم بكاء، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملاً. فلما رأى الله حِرْصَهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرَهم في كتابه، فقال: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:91-93)"، وهم البَكَّاؤون السبعة. راجع في تفسيرها: تفسيرَي الطبري وابن كثير.
إنها صورة مؤثرة للرغبة الصادقة في الجهاد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباتهم، ولا شك أن تلك المواساة من الله -عز وجل- لهم لم تكن إلا نتيجة إيمان صادق، ورغبة صادقة في الاستجابة لأمر الله، فكان البكاء هو أحد مظاهرها.