بيان كمال الديانة الإسلامية
الحمد
لله
القائل: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي
سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا
لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا
آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} والصلاة والسلام
على أزكى البشرية محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره
إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
مقدمة
في بيان كمال الديانة الإسلامية:
إن من كمال الشريعة
الإسلامية بيانها للحق بوضوح وجلاء؛ ميسرة بذلك سهولة الوصول إلى الحق والتعرف عليه
لمن أراده وبحث عنه، قال تعالى: {كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال الإمام ابن كثير، رحمه
الله: وكان أبو العالية يقول في هذه الآية: المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
ولقد كان من نعم الله علينا أن هيأ لنا من أسباب
اجتماع الأمة ما لا يخفى على من سبر الشريعة وأحكامها، إذ وحد الصفوف عند
اعوجاجها، وأرشد الأفئدة الحائرة
عند اضطرابها، وأنار السبيل
ووضّح
الدليل، ووضع القواعد والضوابط
بما يتطابق مع العقل الصريح؛ إذ لا تعارض بين النص الصحيح والعقل
الصريح، ثم ترك بعدها مجالا
لإعمال العقل الصريح وفق ضوابط وقواعد ومقاصد الشريعة الإسلامية، وفي الأمور الاجتهادية
خير شاهد على ذلك، فكانت بذلك رحمة للعالمين
من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فلك الحمد ربنا على تمام
نعمتك {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ
دِينًا}، وإنما مثل الشريعة
الإسلامية في أحكامها كمثل السماء في إحكامها {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ *
ثُمَّ
ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ
حَسِيرٌ}.
وإن من جوانب الكمال في الشريعة الإسلامية أنها
سلمت للعلماء مهمة قيادة الأمة في الأمور الدينية وللأمراء القيادة
السياسية، وأمرت المسلمين بطاعتهم
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ}
فتيسر
للمسلمين بذلك سهولة الاجتماع والرجوع إلى رأي العلماء الموافق لأمر الله
ولأمر
رسوله، عليه الصلاة والسلام، عند حلول
الملمات وحصول الاضطرابات، ومن فعل ذلك فقد سلم من
الإرجاف في البلاد والعباد، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَْمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الأَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ
قَلِيلاً} قال الشيخ ابن سعدي، رحمه الله: "وفي هذا دليل لقاعدة
أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في
أمر من الأمور، ينبغي أن يولّى من هو أهل
لذلك، ويجعل إلى
أهله، ولا يُتقدم بين
أيديهم، فإنه أقرب للصواب وأحرى
من الخطأ" ا. هـ)
تيسير
الكريم الرحمن ص170). وقد قال تعالى في شأن الرجوع إلى العلماء عند الجهل:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} قال الإمام الشاطبي، رحمه الله: "ذلك أن
السائل لا يصح أن يسأل من لا يُعتبر في الشريعة جوابه؛
لأنه
إسناد للأمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل
هذا، بل لا يمكن في
الواقع؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل
لما سئل عنه: أخبرني عما لا
تدري، وأنا أسند أمري لك فيما
نحن بالجهل به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة
العقلاء". (الموافقات 4/ 262)
وإنما مثل العلماء كمثل
النجوم في السماء، قال الإمام ابن القيم،
رحمه الله: "أما تشبيه العلماء
بالنجوم، فإن النجوم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكذلك
العلماء، والنجوم زينة
للسماء، فكذلك العلماء زينة
للأرض، وهي رجوم للشياطين حائلة
بينهم وبين استراق السمع لئلا يلبسوا بما يسترقونه من الوحي الوارد إلى الرسل من
الله على أيدي الملائكة، وكذلك العلماء رجوم لشياطين الإنس والجن
الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف
القول غرورا، فالعلماء رجوم لهذا الصنف من الشياطين، ولولاهم لطمست معالم الدين
بتلبيس المضللين". (مفتاح دار
السعادة
68)
إذا تبين لك
عظيم قدر العلماء ومكانتهم في الإسلام، فاعلم أن هذا التقدير لا يكون كمالاً حتى
يُعطى العلماء قدرهم من غير زيادة ولا نقصان، ومن غير إفراط ولا تفريط، ومن غير
تقصير في طاعتهم المقيدة، ولا غلو في طاعتهم وجعلها مطلقة لا حدود لها، فالعلماء
بمثابة الأدلاّء، فبهم
يُعرف حكم الله، ويستعان بفهمهم لفهم مراد الله، عز وجل، ومراد رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، لا أن طاعتهم مقصودة لذاتها.
والحكمة من ذلك أنه لابد
من صدور خلل أو وجود خطأ أو حصول نقص عند الإنسان، فالكمال لله وحده،
والكمال هنا أن يؤخذ ما
كان
صواباً من أقوال العلماء، وهو الموافق لأمر الله ولأمر
رسوله، عليه الصلاة
والسلام، وأن يترك ما كان خطأً،
وهو المخالف لقول الله ولقول
رسوله، عليه الصلاة
والسلام، وهذا الصواب موجود في
أقوال العلماء بجملتها، ولا يقتضي وجود قول
للعلماء في مسألة ما حصول الصواب فيها.
قال الإمام ابن القيم،
رحمه الله: "ومن هنا يتبين الفرق بيت
تقليد العالم في كل ما قال، وبين الاستعانة
بفهمه، والاستضاءة بنور
علمه، فالأول يأخذ قوله من غير
نظر منه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي
يلقيه في عنقه يُقلدهُ به، ولذلك سُمي
تقليداً، بخلاف من استعان
بفهمهم، واستضاء بنور علمهم في
الوصول إلى الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة
الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى
بدلالته من الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على
القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى". (كتاب الروح 256)
قال الإمام الشاطبي، رحمه
الله: "فعلى كل تقدير لا يُتَّبع
أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة، قائم
بحجتها، حاكم بأحكامها جملة
وتفصيلاً، وأنه متى وجد متوجهاً غير
تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكماً ولا استقام أن
يكون مقتدًى به فيما حاد فيه عن صوب
الشريعة ألبتة". (الاعتصام 2/ 862)
ولهذا نرى علماء الأمة على مر العصور والدهور
يتفانون في رد الناس إلى الحق والنور المبين كتاب الله وسنة رسوله الأمين، إذ
هما الحَكَم في الأمور
كلها، دقيقها
وجليلها، قليلها
وكثيرها، وترك أقوال الأئمة مهما
كان قدرهم إذا كانت مخالفة لقول الله ولقول
رسوله، صلى الله عليه
وسلم، فهذا ابن عباس، رضي الله
عنهما، حبر الأمة وترجمان القرآن يُنكر على أهل زمانه أخذهم بقول أبي بكر الصديق
وعمر الفاروق، رضي الله عنهما، قائلاً: "يُوشك أن تنزل عليكم حجارة
من السماء، أقول: قال الله ورسوله وتقولون قال: أبو
بكر
وعمر؟". وقد نقل الشيخ الدكتور
فضل إلاهي في كتابه (حكم الإنكار في مسائل الخلاف) شواهد كثيرة في إنكار سلف الأمة
على من خالف النص في أحكام الأفعال، وشواهد في إنكار الصحابة على من خالف الكتاب
والسنة، يرجع إليه
مَن أراد الاستزادة.
أقوال
الأئمة الأربعة:
قال الإمام أحمد: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد
وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}". قال الفضل بن زياد عن
أحمد أنه قال: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة
الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين
موضعا" ثم جعل يتلو:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}. وقال الإمام أبو حنيفة،
رحمه الله: "إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول، صلى الله عليه وسلم،
فاتركوا قولي". وقال أيضا:
"لا يحل لأحد أن يأخذ
بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه". قال الشيخ الألباني،
رحمه الله، معلقا في [صفة الصلاة (الحاشية ص (25))]: "فإذا كان هذا قولهم فيمن
لم يعلم دليلهم، فليت شعري ماذا يقولون فيمن علم أن الدليل خلاف قولهم ثم أفتى
بخلاف الدليل؟ فتأمل هذه الكلمة فإنها وحدها كافية في تحطيم التقليد
الأعمى" أ. هـ.
وقال الإمام مالك، رحمه الله: "ليس أحد بعد
النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه
وسلم". قال الشيخ الألباني،
رحمه الله، معلقا في [صفة الصلاة (الحاشية ص (28)]: "وأورده تقي الدين السبكي
في "الفتاوى" (1/ 148) من قول ابن عباس متعجباً من حسنه، ثم قال: وأخذ هذه الكلمة
من ابن عباس مجاهد، وأخذها منهما مالك
واشتهرت عنه". قال الشيخ الألباني،
رحمه الله: "ثم أخذها عنهم الإمام أحمد، فقد قال أبو داود في (مسائل الإمام أحمد)
(ص276): سمعت أحمد يقول: ليس أحد إلا ويؤخذ من رأيه ويترك ما خلا النبي، صلى الله
عليه وسلم" أ. هـ.
وقال الإمام الشافعي، رحمه الله: "ما من أحد إلا
وتذهب عليه سنة الرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتعزب عنه، فما قلت من قول أو أصلت
من أصل فيه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خلاف ما
قلت، فالقول ما قال رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، وهو قولي". وقال أيضا:
"أجمع المسلمون على أن من
استبان له سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحل له أن يدعها لقول
أحد" أ. هـ.
_________________
أخوكم في الله
فارس الاسلام
مدير منتدى فرسان التوحيد
http://www.forsanaltwhed.com/vb