الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد تعددت وجهات النظر حول أسباب حرب غزة:
هل هي لاقتلاع حماس؟
أو السبب انتخابي بالدرجة الأولى والغرض هو الداخل الإسرائيلي؟
وقراءة ما يدور على الساحة يكشف لنا عدة نقاط:
أولاً: سبب الحرب:
هناك في الحقيقة عدة أسباب هي التي تدفع إسرائيل لشن هذه الحرب البربرية على غزة وأهلها.
أولها: أن إسرائيل تحاول أن تجعل من نفسها شرطياً في المنطقة، ونائباً عن الغرب في تحقيقه مصالحه، أو قل وكيلاً عن الغرب في تنفيذ المهام القذرة.
ففي أيام الاتحاد السوفيتي حاول إسرائيل أن تكون خط الدفاع الأول عن المصالح الغربية ضد السوفيت، ثم لما سقط الاتحاد السوفيتي توقع البعض انهيار إسرائيل، إلا أن الغرب حوّل الدفة تجاه العالم الإسلامي وصار (الإرهاب الإسلامي) -بزعمهم- هو العدو الأول، وحولت إسرائيل الدفة أيضاً، وأخذت العصابة الحاكمة هناك تعزف على نغمة حرب الإرهاب واقتلاع جذوره.
وهكذا بررت إسرائيل حربها على غزة بأنها في الحقيقة حرب على الإرهاب الإسلامي المتمثل في حماس.
ولا يُخفي صدق هذا التوجه لديهم ولدى الغرب ذلك السكوت الرهيب على المجازر التي تشيب لها الرؤوس في غزة، مما يوحي بوجود تواطؤ واضح لدى الغرب وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية.
ثانيها: إسرائيل دولة أشتات، مكونة من مجموعات متباينة مختلفة من البشر، اختلفت ثقافاتهم، وبيئاتهم، ودولهم، وأشكالهم، وإمكاناتهم، انصب الجميع في مكان واحد وتكوَّن مجتمع مفكك.
هذا المجتمع اليهودي يحتاج إلى رابط يربطه ليتماسك، ولهذا رأى اللواء محمود شيت خطاب أن إسرائيل تحتاج إلى حرب كل عشر سنوات لتحافظ على ديناميكية الوجود والاستمرار لديها، وإلا لتآكل المجتمع اليهودي وانتهت إسرائيل.
وقد كان متفائلاً، فأصبحت فالحروب الإسرائيلية أقرب من ذلك بكثير، فبعد غزة 2005م، كانت لبنان 2006م، ثم غزة 2008م، ونسأل الله أن تكون الأخيرة.
فسياسة الحرب لدى اليهود هي غاية، فالحرب عندهم للحرب؛ لتجنيس الدولة واستمرارها.
ثالثها: إعادة هيبة الجيش الذي لا يقهر، وقد كان صادقاً أمين عام جامعة الدول العربية حينما قال: "أسطورة الجيش الذي لا يقهر ولَّت ولن تعود".
فصواريخ جنوب لبنان أثرت في نفوس اليهود تأثيراً بالغاً، وأحسَّ الجميع بأن الذراع الإسرائيلية الطويلة القادرة على ضرب مفاعل العراق، وقتل أبي جهاد في تونس، ليست قادرة على صد صواريخ حزب الله وحماس من بعده.
وتدمير غزة على رأس من فيها ربما يرأب هذا الصدع، ويسد الخلل الحاصل بعد حرب لبنان.
رابعاً: تحطيم إرادة الأمة الإسلامية، وتحطيم النموذج، فمع فشل تحطيم نموذج القاعدة في العراق وأفغانستان، اختار اليهود -ومن خلفهم أمريكا- الخاصرة الضعيفة في الأمة لضربها، فحماس نموذج من نماذج المقاومة -الجهاد- في الأمة، وبغض النظر عن صحة دخول حماس العملية السياسية أو خطأ ذلك، فقد أثبتت على الأرض أن التيار الإسلامي له تأثير واضح وغلبة ظاهرة في حال صدق العملية الانتخابية والديمقراطية.
وإسرائيل تحاول ترميم هيبة أمريكا التي تحطمت في العراق أو أفغانستان أو في الصومال بعد فشل الغزو الأثيوبي الصليبي.
وهكذا كانت غزة من وجهة نظرهم مهرباً من الفشل، ومكاناً يمكن من خلاله تركيع الأمة وتدمير معنوياتها.
خامساً: أرادت العصابة الحاكمة في إسرائيل استخدام الدم الفلسطيني كورقة انتخابية، ففي الوقت الذي صرح فيه نتنياهو أنه سيقضى على حماس بعد فوزه في الانتخابات، فمنافسوه أظهروا أنهم ليسوا أقل تطرفاً منه، والغرض صندوق الانتخابات.
سادساً: فشل السلطة في رام الله بقيادة عباس ودحلان وغيرهما في احتواء الحركات الجهادية الفلسطينية والسيطرة عليها، فقررت إسرائيل مع قرب انتهاء ولاية عباس القيام بذلك بنفسها.
فسعت إسرائيل ومن خلفها الغرب بجناحيه -أمريكا وأوروبا- والأنظمة العربية المتهالكة على السلطة إلى إفشال النموذج الإسلامي في غزة، فبعد حصار طويل أتت تلك الحرب الطاحنة لتعبر عن حقد دفين على الإسلام وأهله.
ولكن هل نجحت تلك الحملة وهذه المخططات؟
لنا أن نقول بكل ثقة: تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ولنا أن نجمل نتائج هذا العدوان في الآتي:
أولا: أظهرت تلك الحربُ الضعفَ الرهيبَ للأنظمة العربية المتهالكة؛ فالأنظمة العربية بدلا من أن تواجه مشكلات الداخل ومشكلات الغرب أصبحت تواجه أيضا مشكلات مع المحيط الإسلامي؛ حيث جرى استغلال ذلك وبوضوح من قِبل إيران وتركيا.
وبدلا من أن تكسب الأنظمة العربية جولة من جولات معارك كسر العظم مع التيار الإسلامي إذا بها تخسر جولات، وبعد أن كان هذا الضعف ظاهرا خارجيا مع حالة من الاستئساد في الداخل عبر الأنظمة القمعية؛ أصبحت تلك الأنظمة في حالة من حالات الهلع والرعب والفزع والضعف الحاد داخليا، وتراجعت جحافل الأمن أمام الزحف الشعبي الهادر في كافة دول العالم العربي والإسلامي.
ثانيا: خروج حماس أقوى سياسيا مما كانت، وتراجع سلطة عباس عن دخول غزة على ظهور الدبابات الإسرائيلية بعد رؤيتهم لحجم النقمة الشعبية الرهيبة فلسطينيا وعربيا وإسلاميا، وتراجع الدور المصري وثبات غزة.
بل إنه بعد انتهاء الفترة الرئاسية لعباس أخذت أجهزة الإعلام الممالئة والعميلة لليهود تعمل على تلميع وجه جديد يلعب دور عباس انتظارا للحظة رحيله، والمرشح المتوقع هو مروان البرغوثي، وبدءوا في إطلاق ألقاب البطولة عليه من الآن حيث اعتبروه "نابليون فلسطين"، وبئس ما شبهوا!!
ثالثا: يمكننا أن نعلن الآن وبعد مرور ثلاثة أسابيع هذه الحرب الغادرة: فشل العدوان اليهودي، وأن غزة وأهلها قد انتصروا، والحمد لله رب العالمين.