بقلم الإعلامي مصطفى محمود في ساعات الصفاء حينما تنقشع الغواشي عن القلب وتنجلي البصيرة، وأرى كل شيء أمامي بوضوح، تبدو لي الدنيا بحجمها الحقيقي وبقيمتها الحقيقية، فإذا هي مجرد رسم كروكي أو ديكور مؤقت من ورق الكرتون، أو بروفة توزع فيها الأدوار لاختيار قدرات الممثلين، أو مجرد ضرب مثال لتقريب معنى بعيد ومجرد وهي في جميع الأحوال مجرد عبور ومزار ومنظر من شباك في قطار.
وهي الغربة وليست الوطن.
وهي السفر وليست المقر.
أعجب تماما وأدهش من ناس يجمعون ويكنزون ويبنون ويرفعون البناء وينفقون على أبهة السكن ورفاهية المقام.. وكأنما هو مقام أبدي.. وأقول لنفسي أنسوا أنهم في مرور؟. ألم يذكر أحدهم أنه حمل نعش أبيه وغدا يحمل ابنه نعشه إلى حفرة يستوي فيها الكل؟.. وهل يحتاج المسافر لأكثر من سرير سفري وهل يحتاج الجوال لأكثر من خيمة متنقلة؟.
ولم هذه الأبهة الفارغة ولمن؟.
ولم الترف ونحن عنه راحلون؟.
هل نحن أغبياء إلى هذه الدرجة؟. أم هي غواشي الغرور والغفلة والطمع وعمى الشهوات وسعار الرغبات وسباق الأوهام؟. وكل ما نفوز به في هذه الدنيا وهمي، وكل ما نمسك به ينفلت مع الريح.
والذين يتقاتلون ليسبق الواحد منهم الآخر أكثر عمى، فالشارع سد عند نهايته وكل العربات تتحطم ويستوي فيها السابق باللاحق، ولا يكسب أحد منهم إلا وزر قتل أخيه.. بل إن أكثر الناس أحمالا وأوزارا في هذه الدنيا هم الأكثر كنوزا والأكثر ثراء، فكم ظلموا أنفسهم ليجمعوا، وكم ظلموا غيرهم ليرتفعوا على أكتافهم.
ولعلنا سمعنا مثل هذا الكلام ونحن نلهث متسابقين على الطريق.. فهو كلام قديم قدم التاريخ رددته جميع الأسفار وقاله جميع الحكماء ولكنا لم نلق له بالا ولم يتجاوز شحمة الأذن.
ومازلنا نسمع ولا نسمع برغم تطور أدوات الاستماع وكثرة الميكروفونات ومكبرات الصوت، ولاقطات الهمس الإلكترونية من فوق الفضاء ومن تحت الثرى.
ومازلنا نزداد صمما عن إدراك هذه الحقيقة البسيطة الواضحة وكأنها طلسم مطلسم ولغز عصي على الأفهام.
هل نحن مخدرون؟.
أم هناك ما هو أقوى أثرا وأكثر شراسة من الخمور والمخدرات، هي مادية العصر التي طبعت الناس بذلك الشعار المسكر؟ غامر واكسب.. وانهب واهرب.. وسارع إلى اللذة قبل أن تفوتك.. وعش لحظتك بملئها طولا وعرضا ولا تفكر ماذا بعد فقد لا يكون هناك بعد.
نعم تلك هي الخدعة التي يستدرج إليها الكل.. إنه لا شيء سوى ما نرى ونسمع ونذوق ونلمس من ماديات، وأنه ليس وراء هذه الدنيا شيء ونفوسنا الأمارة استراحت إلى هذه الفلسفة لأنها تشبع لها رغائبها وتحقق لها مشتهياتها، والحيوان في داخلنا اختارها لأنها تشبع غرائزه.
وتلك النفس هي الفتنة والحجاب وهي التي أفرزت هذه الحضارة المادية وروجتها.
ألم يسأل داوود ربه: يا رب كيف أصل إليك. فقال له ربه.. اترك نفسك وتعال.. أن يترك هذه النفس لأنها العقبة.. (( فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة)) (11 – 13 البلد)
لا انفكاك من هذه العقبة إلا بالانفكاك من طمعك.. فتفك الرقبة وتطعم المسكين وتؤثر غيرك على نفسك. ولذلك لم يطلب الإسلام من المسلم نبذ الدنيا وإنما طلب منه قمع النفس وكبحها وشكمها.. لأن النفس هي الأصل.. والدنيا مجرد أداة لتلك النفس لتختال وتزهو وتتلذذ وتستمتع.
إن النفس هي الموضوع وهي ميدان المعركة ومحل الابتلاء، والدنيا ورقة امتحانها، ومطلوب الدين هو الإرتقاء بهذه النفس والارتفاع بها من شهوات البطن والفرج ومن شهوات الجمع والاكتناز، ومن حمى الاستعراض والكبر والتفاخر ليكون لها معشوق أرقى هو القيم والكمالات، ومعبود واحد هو جامع هذه الكمالات كلها..
وإنما تدور المعركة في داخل النفس وفي شارع الدنيا حيث يتفاضل الناس بمواقفهم من الغوايات والمغريات وما تعرض عليهم شياطينهم من خواطر السوء ومن فرص اللذة كل لحظة.
ولم يطلب الإسلام من المسلم أن ينبذ الدنيا، بل طلب منه أن يخوضها مسلحا بهذه المعرفة، فالدنيا هي مزرعته وهي مجلى أفعاله وصحيفة أعماله.
وقدم له فلسفة أخرى في مواجهة الفلسفة المادية.. قدم له فلسفة استمرار وبقاء فهولن يموت ويمضي إلى عدم.. بل إلى حياة أخرى سوف تتعدد فصولا وتمضي به كدحا وجهادا حتى يلقى ربه: (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)) (6 – الانشقاق).
الحضارة المادية لم تقدم للإنسان إلا الموت وحياة تمضي سدا وتنتهي عبثا.. أما الإسلام فقدم للإنسان الخلود وحياة تمضي لحكمة وتنتقل من طور إلى طور وفقا لنواميس ثابتة من العدل الإلهي، حيث لا يذهب أي عمل سدى ولوكان مثقال ذرة من خير أوشر.. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
واليوم تصل الحضارة المادية إلى ذروة من القوة والعلم وتكتمل لها أدوات الفعل والتأثير من إذاعة وتليفزيون وسينما ومسرح وكتب ومجلات، وهي سواء كانت أمريكية أو غيرها، فهي لا تفتأ تغتال العقل والروح وتتحالف على الإنسان بخيلها ورجلها، ولكنها برغم كل شيء ضعيفة متهافتة واهية لأنها تغتال نفسها ضمن ما تغتال وتأكل كيانها، وسوف تقتتل مع بعضها البعض وتتحارب بالمخلب والناب وبالقنابل الذرية والقذائف النووية فالطمع والجشع حياتها وموتها.
وعلى رقعة صغيرة من الأرض يقف الإسلام كمنارة في بحر لجي مظلم متلاطم الموج يعج بالبوارج والغواصات وحاملات الصواريخ وحاملات الرءوس النووية.
وما أكثر المسلمين ممن هم في البطاقة مسلمون، ولكنهم في الحقيقة ماديون اغتالتهم الحضارة المادية بأفكارها وسكنتهم حتى الأحشاء والنخاع، فهم يقتل بعضهم البعض ويعيشون لليوم واللحظة ويجمعون ويكنزون ويتفاخرون ولا يرون من الغد أبعد من لذة ساعة، ويتكلمون بلغة روسية أو لغة أمريكية ولا يعرفون لهم هوية..
وقد نجد من يصلي منهم إلى القبلة خمس مرات في اليوم ولكن حقيقة قبلته هي فاترينة البضائع الاستهلاكية.
ولا يبقى بعد ذلك إلا قليل أو أقل القليل ممن عرف ربه.
ولو بقي مؤمن واحد مرابط على الحق في الأربعة آلاف مليون فهو وحده أمة ترجحهم جميعا عند الله يوم تنكشف الحقائق وينهدم مسرح العرائس ويتمزق ديكور الخيش والخرق الملونة، وتنهار علب الكرتون التي ظنناها ناطحات سحاب وتنتهي الدنيا.
وحينئذ وعندما تهتك الأستار وتقام الموازين، سوف نعرف ما الدنيا وماذا تساوي.. وماذا يساوي كل الزمن حينما نضع أقدامنا في الأبد.
وحينئذ سوف نتذكر الدنيا كما نتذكر رسما كروكيا، أو مسرح خيال الظل، أو نموذج مثال مصنوع من الصلصال لتقريب معنى بعيد بعيد ومجرد..
وسوف نعلم أنها ما كانت سوى النقطة التي فيها كل أملاح البحر المحيط، ولكنها لم تكن أبدا البحر المحيط..