الإصابة بعدوى الجراثيم لا تزال تُمثل أحد الأسباب الرئيسية لإصابة الناس بالأمراض. ومن عطس أحد الأشخاص الجالسين بجوارنا في المكتب أو أثناء زيارة عائلية، ومن استخدامنا لسماعة هاتف عمومي، ومن قرص لجلد أحدنا خلال سفره إلى منطقة موبوءة بالبعوض، ومن تناولنا لسندوتش "شارورما" أو "فلافل" من مطعم لا يتبع أبسط قواعد النظافة، ومن غير ذلك الكثير، تنتقل الجراثيم إلينا.
ولأننا نعيش في عالم يتميز بأن تعداد الجراثيم فيه يفوق ملايين أضعاف عدد السكان من البشر، وكذا عدد الحيوانات والحشرات، فإن علينا أن نتقبل حقيقة بسيطة وهي أننا مُحاطون بالجراثيم من كل جانب، ومُعرضون في كل لحظة لالتقاط أحدها. ولذا بالتالي فإن الإنسان يُمكن أن يكون مريضاً طوال عمره بميكروب تلو آخر. ولكن هذا السيناريو لا يحصل، بل الأمور أهون من ذلك بكثير على بني البشر.
ولأحدنا أن يسأل : لماذا لا يبقى المرء مريضاً طوال عمره طالما أنواع الجراثيم، مثل البكتيريا والفيروسات والطفيليات والفطريات، تُحيط بنا من كل جانب ؟
والإجابة الواقعية والعلمية بسيطة، ومفادها أن الإنسان "محظوظ". وهو محظوظ لأن ليس كل البكتيريا الموجودة حوله هي من البكتيريا المتسببة بالأمراض. وتشير بعض المراجع الطبية المتخصصة في علم الميكروبات إلى أن 1% فقط من البكتيريا التي حول أحدنا قد تكون سبباً في إصابته بالأمراض. وكذلك الحال مع كثير من بقية أنواع الميكروبات.
والإنسان محظوظ "كمان وكمان"، ومن حظه أن لدي جسمه عدداً من خطوط الدفاع التي تحميه من الميكروبات. ويُمثل الجلد خط الدفاع الأول، بكل ما فيه من آليات تعمل على منع الميكروبات من الدخول إلى الجسم. وكذلك ثمة خطوط دفاع أخرى، بآليات عمل متنوعة، يمتلكها الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والجهاز البولي - التناسلي والعينيان والأذنان وبقية الأعضاء ذات الاتصال المباشر مع البيئة التي نعيش فيها.
إذن، ما الذي يبقى علينا فعله لوقاية أنفسنا من أمراض هذه الجراثيم؟
والجواب ببساطة واختصار: يبقى علينا الكثير جداً، من جوانب، وهي:
- علينا أن نُحافظ على قوة ونشاط أنظمة خطوط الدفاع عن الجسم كي تكون جاهزة وفاعلة ومثمرة في عملها.
- علينا أن نفهم ما يكفي عن الوسائل التي تتخذها الجراثيم في انتقالها وإصابتها الناس بالأمراض. وتختلف الوسائل المستخدمة من قبل الأنواع المختلفة من الميكروبات، تبعاً لاختلاف أنواع الجراثيم في منطقة عن بقية المناطق الأخرى في العالم، ومن وقت لأخر خلال العام.
- علينا أن نُدرك ونتبع تطبيق الوسائل السلوكية والوسائل الطبية التي ثبتت فائدتها في منع الإصابة بالجراثيم ومنع الإصابات بأمراضها.
حقائق عن العدوى بالجراثيم
الإصابة بأمراض الميكروبات تتم من خلال عدوى الاتصال. والمقصود أن الأمراض الميكروبية لا تحصل إلا حينما ينجح "شيء ما" من الميكروب، من أي نوع كان، في الوصول إلى جزء من الجسم والدخول فيه.
هذا هو الأساس الأول. ولذا لا يُمكن أن ينشأ لدى المرء مرض ميكروبي إلا بوصول "شيء ما" من الميكروب إلى جسم الإنسان. و"شيء ما" تشمل الميكروب كاملاً، قوياً أو ضعيفاً، وتشمل أجزاء من جسم الميكروب أو مواد كيميائية يُفرزها.
والأساس الثاني، أن وصول الميكروب إلى عدة أشخاص لا يعني تلقائيا أن جميعهم سيُصابون بالمرض، بل يختلف الناس، إذْ قد يمرض بعضهم، بينما لا يظهر المرض أو أي علامات له على بعضهم الآخر. وذلك وفق تأثير عوامل عدة تتعلق بجهاز مناعة الجسم، ومدى تغلغل الميكروب في الجسم، وكمية الميكروبات التي وصلت إلى الجسم، والحالة الصحية العامة للجسم، وغيرها من العوامل.
فرق بين العدوى والمرض
والأساس الثالث، أن هناك فرق بين العدوى infection ، وبين المرض disease. والعدوى هي الخطوة الأولى، والتي فيها يحصل دخول الميكروب إلى الجسم. والمرض حالة من تفاعل الجسم مع وجود هذه الميكروبات في الجسم وتكاثرها وتدميرها لأنسجة الجسم.
ولذا فإن تفاعل جهاز مناعة الجسم هو ما يُظهر مجموعات العلامات التي تُصاحب الحالة "المرضية". ومثلاً في حال نزلة البرد، يكون ارتفاع حرارة الجسم علامة على أن ثمة تفاعلاً مُقاوماً يُبديه جهاز المناعة مع وجود الميكروبات أو المواد التي تُفرزها في الجسم. وكذا الحال مع سيلان الأنف والسعال والعطس.
والأساس الرابع، أن وصول الميكروب ودخوله إلى الجسم، لا يعني مطلقاً أن ثمة طريقاً واحداً لحصول هذا الأمر. بمعنى أن عدوى الإنسان بالمرض الميكروبي لا تتم فقط عند اتصاله المباشر بشخص أخر مريض يحمل الميكروبات تلك، بل ثمة طرق متعددة يُمكن للميكروبات من خلالها الوصول إلى جسم الإنسان السليم والدخول فيه والتسبب بالمرض لديه، دون أن يكون قد سبق للمرء أن اتصل بشكل مباشر، أو خالط، بشخص أو أشخاص مرضى. ومن هنا فإن هناك ما يُعرف في علم الأمراض المُعدية بـ "طرق الاتصال" المتسببة بانتقال وانتشار الميكروبات إلى الأشخاص السليمين. وهذه الطرق، منها ما هو عبر طرق "مباشرة" Direct ، ومنها ما يحصل عبر طرق "غير مباشرة" Indirect.
طرق انتقال الميكروبات
التقاط عدوى أحد أنواع الأمراض الميكروبية تتطلب أن يحصل اتصال وتلاق بين شخص سليم و "شيء ما" يحمل ويحتضن تلك الميكروبات. و"شيء ما" هذه تشمل إنساناً مُصاباً بالمرض الميكروبي، أو حيواناً يحمل ويحتضن تلك الميكروبات، سواءً تبدو عليه علامات المرض أو لا تبدو. وهنا تُسمى طرق الانتقال بـ "الطرق المباشرة". وحينما تحصل العدوى نتيجة الاتصال بشيء جماد وملوث بالميكروبات، كالماء أو الطعام أو الهاتف أو الدم أو غيره، فإن طرق العدوى تُسمى "طرق غير مباشرة".
والطريق المباشر لانتقال الميكروبات يأخذ ثلاث أوجه، وهي:
- من شخص مريض إلى شخص سليم. وهو أهم وأشهر طرق انتقال الميكروبات بين الناس. وهنا ينتقل الميكروب، سواءً كان فيروسا أو بكتيريا أو غيرهما من الميكروبات، من شخص لآخر. وهذا يحصل حينما يقوم الشخص المُصاب بالبكتيريا أو الفيروسات بلمس شخص سليم، أو السعال والعطس أمامه، أو تقبيله، أو ممارسة العملية الجنسية معه، أو غير ذلك من الطرق التي يُمكن للميكروبات من خلالها الوصول إلى جسم الشخص السليم. وهنا تختلف الميكروبات في القدرة على الانتقال، كما يختلف الأشخاص السليمين في احتمال التقاط الميكروب.
- من حيوان إلى شخص سليم. وكلمة حيوان تشمل جميع الحيوانات، من حشرات وطيور وزواحف وفقاريات وحيوانات بحرية وغيرها. والحشرات قد تحمل على جسمها أو في داخله ميكروبات يُمكن أن تنتقل إلى الإنسان حال ملامستها أو حال الإصابة بقرص منها. وكذلك الحيوانات الأخرى قد يأكلها الإنسان وهي ملوثة أو قد تعض الإنسان أو قد يلمس فضلاتها أو غير ذلك مما قد يتسبب بإصابات أشخاص سليمين بالميكروبات عبر الحيوانات.
- من الحامل إلى الجنين. وذلك إما خلال فترة الحمل نفسها أو أثناء عملية الولادة. وخلال فترة الحمل تعبر الميكروبات من الأم إلى الجنين عبر المشيمة. وخلال عملية الولادة تصل الميكروبات إلى الجنين إما عبر السوائل المهبلية أو الدم. وبعض الميكروبات قد تنتقل عبر عملية الولادة الطبيعية، وتقل احتمالات انتقالها عبر الولادة القيصرية. كما تنتقل الميكروبات المتسببة بالأمراض من خلال طرق "غير مباشرة".
وما يُسهل هذه الطرق هو أن يكون لدى الميكروب قدرات على البقاء حياً خارج الجسم، سواءً كان جسم إنسان أو حيوان. وهو ما يحصل في العدوى جراء ملامسة أشياء ملوثة بالميكروبات من شخص مريض، كمقابض الأبواب أو سماعة الهاتف أو أسطح المكاتب أو لوح الكتابة للكومبيوتر.
وتنتقل الميكروبات حينئذ إلى الجسم عبر لمس العينين أو الفم أو الأنف أو الجلد. وثمة الكثير من الميكروبات التي لديها القدرة على التسبب بالعدوى من هذه الطرق غير المباشرة، وكثير لا يُمكن انتقالها بتلك الطرق.
وسائل لانتقال الميكروبات
وانتقال الميكروبات عبر الهواء يتطلب وجود مركب ناقل يحمل الميكروبات على ظهره أو في داخله، كي تصل إلى الإنسان السليم وتُصيبه بالعدوى. والمركب الناقل على نوعين:
- الانتقال بالقُطيرات droplets، أي تصغير قطرة. وأحدنا حينما يعطس أو يسعل، فإنه ينثر في الهواء رذاذاً من قُطيرات. وحال وجود إصابة فيروسية أو بكتيرية لنزلات البرد أو الأنفلونزا أو التهابات الحلق أو الجيوب الأنفية، فإن القُطيرات المنبعثة مع الهواء تحمل في طياتها الميكروبات. وهذا النوع يُسمى بانتشار القُطيرات droplet transmission.
والقُطيرات تستطيع قطع مسافة لا تتجاوز ثلاثة أقدام (90سم تقريبا)، لأن حجمها كبير نسبياً، ووزنها كذلك، فلا تستطيع أن تبقى في الهواء مُعلقة لمدة طويلة. والمشكلة حينما تصل القُطيرة إلى عين أو فم أو أنف إنسان سليم. وبعدها قد تبدأ أعراض المرض المنتقل بالظهور. ولذا فإن التواجد في المناطق المزدحمة أو المُغلقة، يرفع من احتمالات العدوى عبر انتشار القُطيرات. وهو ما يُفسر في جانب منه سبب ارتفاع الإصابات بأمراض الجهاز التنفسي العلوي في فصل الشتاء البارد بين منْ يحرصون على البقاء داخل المنازل أو المطاعم المزدحمة.
- الانتقال بالجُسيمات Particle. وتنتقل بعض أنواع الميكروبات المتسببة ببعض الأمراض خلال الهواء وهي مُحملة على جُسيمات أصغر حجماً ووزناً من القُطيرات المائية. ولأن حجم ووزن الجُسيمات أقل، فإنها تنتقل إلى مسافات بعيدة، وتظل سابحة في الهواء لفترات أطول. والأهم، أنها تخضع لتوجيه تيارات الهواء في انتشارها، إما بعيداً أو قريباً من الناس السليمين. وبعض أنواع الفيروسات أو البكتيريا المتسببة بأمراض الجهاز التنفسي، تستخدم النوعين المتقدمين الذكر في انتقالها من المريض إلى السليم.
- الانتقال بعناصر حيّة. وتعتمد بعض الميكروبات في ضمان انتقالها من شخص مريض إلى شخص سليم، على عناصر حية تُسهم في إتمام عملية الانتقال، مثل البعوض أو البراغيث أو القراد أو القمل أو غيره. وهنا تستخدم "ناقلات الميكروبات" وسائل كالقرص أو العض أو لدغ أو لسع، في تسهيل إدخال الميكروبات العالقة على سطحها أو في افرازات جهازها الهضمي.
وفي بعض أنواع الميكروبات، تكون "ناقلات الميكروبات" مهمة فقط في إتمام عملية الانتقال. بينما في أنواع أخرى من الميكروبات، يكون وجودها في جسم أحد "ناقلات الميكروبات" مهم للتمكن من النمو والتكاثر والنضج، قبل الدخول إلى جسم الإنسان. وهذا ما يحصل في الملاريا والبعوض.
- "طريقة النقل العام". وتتمكن الميكروبات من خلال الماء أو الطعام الملوث بها، من الانتقال إلى جسم الإنسان السليم. وهو ما يُطلق البعض عليه "الانتقال بطريقة النقل العام". وذلك لأن هذه الطريقة تُمكن مجموعات الميكروبات من الانتقال إلى عدد كبير من الناس عبر مصدر واحد متلوث