|
صورة قديمة للمسجد الحرام قبل التوسعة |
أحمد رمضان حجازي
قسم الفيزياء- كلية العلوم- جامعة الكويت
الحمد لله، فهذا كتابٌ الله تعالى ينطقُ في كل آية بصدقِ رسالةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبيان نبوته، ومن هذه الأدلة الباهرة، والبراهين المتكاثرة، ما جاء في كتاب الله تعالى عن النفاق وحاله، وفضحه وقشقشته لأهله ورجاله. وهو إعجاز غيبي عظيم، يؤكد نزول هذا الكتاب من عند الله تعالى، إذ كما قال الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي الْسَّمواتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ الغَيْبَ إلا اللهُ) النمل: 65، وإليكم مجموعة من الأدلة المؤكدة لبيان ذلك:
(1) إخبار القرآن بوجود النفاق: أخبر القرآن الكريم بوجود المنافقين في الدولة الإسلامية كما في سورة البقرة والتوبة وغيرهما، بل أخبر بأماكنهم ومنابتِ خبثهم.
قال تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) البقرة: 8،
وقال تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاقِ لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذابٍ عظيم) التوبة: 101، وقال تعالى: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) التوبة 97. إلى آخر ذلك من الآيات الكثيرة..
كما أخبر بأحوال المنافقين ومقالاتهم المتنوعة، مع أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لو لم يكن نبيا لما علِم ولا شعر أن هناك اتجاها رائجا بالتستر بالنفاق في المدينة، فإنه يرى أمامه مؤمنين وكافرين، فمن أين يشعُرُ بالنفاقِ لولا الوحي؟ فلولا أن الله جلى له أمرهم لطفا به تعالى لما علم بسرائرهم أحد.
(2) وقد يُجادَلُ بأن تصرفات المنافقين كإفشاء أسرار الدولة والتكاسل عن الصلوات والتثاقل عن الجهاد والتخلف عنهما الخ.. أثارت الاشتباه – مجرد الاشتباه– بوجود فكرة إخفاء الكفر في المدينة لقول ابن مسعود رضي الله عنه عن الصلاة: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) (1). والجواب أنه لو كان الأمر بالاشتباه فقط لربما اشتبه النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الناس الذين هم مؤمنون في الحقيقة، ولكنه كان قادرا –بوحي ربه إليه– من التمييز بن صادقي المؤمنين وكاذبيهم. يأتيه الرجل تدور حوله شبهات النفاق فيبرئه منها ويَسُلُّه سَلَّ الشعرة من العجين، ويأتيه آخَر يبدو أن لا شبهة عليه فيؤكد وصفه بالنفاق. وفي هذا الدليل الباهر والبرهان الظاهر على نبوته والوحي إليه. إن الاشتباه يخطئ ويصيب، أما هو –صلوات الله وسلامه عليه– فلم يخطئ أبدا فيمن أخبر عن إيمانه أو نفاقه، والأدلة التاريخية على ذلك نسوق بعضا منها في البنود من(3) إلى (7).
(3) تبرئة كعب بن ماِلك من النفاق: تخلَّفَ كعبٌ بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك مع المنافقين، ثم اعتذر إلى النبيِّ واعتذر إليه المنافقون فأرجأ النبي إعذارَ كعبٍ واثنينِ آخرين هُما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية حتى نزل الوحي بتبرئتهم من تهمة النفاق كما جاء في الحديث الطويل المتفق عليه (2). فهذا دليلٌ على تمييزه بين صادقي المؤمنين وكاذبيهم.
(4) تبرئة حاطب بن أبي بلتعة منه: لما عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على فتح مكة قام حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بإرسال تحذير إلى أهل مكة يُعلِمهم بمسير الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم وعزمه على قتالهم، فأظهر الله نبيَّهُ على كِتاب حاطِبٍ فأرسلَ علياً والمقدادَ والزبيرَ رضوان الله عليهم للحاق بالجارية التي انطلقت بالكتاب، فلما اعتذر حاطبٌ قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابِهِ (أمَّا إنه قد صدقكم) وبرَّأه مما رمي به من النفاق. والحديث متفق عليه (3).
وهنا دليلانِ على النبوة:-
الأول: معرِفةِ النبي بما عزم عليه حاطب رضي الله عنه ومعرِفته بشأنِ الكِتابِ والجاريةِ التي تحمله والمكان الذي فيه الجارية، قال لعلي وأصحابه: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ –موضع– فإن بها ظعينة –أي راكبة– معها كتاب فخذوه منها) متفق عليه(4) فذهبوا تعادى بهم خيلهم حتى وجدوا الجارية ووجدوا معها الكتاب.
والثاني: إخباره بصدق إيمان حاطب وعدم نفاقه.
(5) قصة الجد بن قيس: وفي قصة الجد بن قيس –وهو من المنافقين– آيةٌ من آياتِ صِدقِ النبوة، فإن هذا الرجُل جاء يستأذن من النبي في ترك الجهاد في غزوة تبوك، واحتج لذلك بأنه يخشى على نفسه فتنة نساءِ بني الأصفر(5)! كما قال الله تعالى: (ومنهم من من يقول ائذن لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) التوبة 49.
إن درءَ المفاسد في الشريعةِ مقدَّمٌ على جلبِ المصالح، ولذا فإن إعفاء هذا الرجل ليعتصم من فتنة النساء أولى من انتفاعنا به في الجهاد، لاسيما وإننا لا نعلم نفاقه من صدقه، وليس لنا إساءةُ الظن به دون قرينة. ولهذا أذِنَ له النبي في ترك الغزوة معه عندما لم يتبين له أمره، ولكِن لما نزل الوحيُ ردَّ الله تعالى على هذا المنافق وجلى للمسلمين أمره كما في الآية السابقة، وقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: (عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) التوبة: 43.
إن هذا يبينُ ما قلناه في أول المقال، فإن النبي لم يعلم بأمر الجد المنافق وطوية نفسه لولا الوحي.
(6) قصة مسجد الضرار: بِناءُ المساجِدِ عملٌ طيب تحث عليه الشريعةُ أيَّما حَثَّ، ولكِنْ لمّا ابتنى المنافقون مَسْجِدا نزلَ القرآنُ بذمهم لبنائه، وأَمَرَ الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم ألا يقوم فيه، فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سلمة بن عوف ومعن بن عدي العجلاني فقال (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماهُ وحرِّقاه)، ففعلا(6). وذلك من الإعجاز، فقد ميز بين صحيحي الإيمان من منافقيهم، وما كان ذلِكَ ليكونُ إلا بالوحي.
(7) وأي دليلٍ على تمييزه الصادق من الكاذب بعد أن يخبِرَ بأعيان رهطٍ منهم وأسمائهم واحداً واحداً لحذيفةَ بنِ اليمانِ؟؟ أوليستْ لنا عُقولٌ نهتدي بها إلى صحيح الأقوال وسقيمها؟ فكيف عرفهم بأعيانهم ونحنُ نرى أنَّ البلاد المغدورة بالجواسيس قلما تكتشفُ أمرهم، بل في كثيرٍ من الأحيان لا يُشعر بهم إطلاقا.
ولِماذا اختار هذه الأسماء بالذات على قائمة المنافقين؟؟ أبِناءً على عداوةٍ شخصية؟؟ هذا عبدُ الله بن أُبي بن سلول كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقره ويتمنى مودته للمسلمين واستغفرَ لهُ بعدَ وفاتِه حتى نُهيَ عن ذلك، إنّ هذه المودة كانت كفيلةً بألا يضعَهُ على القائمة –لو كان الأمرُ له– ولكنَّه موضوعٌ على قائمة النفاق، ونزلَ القرآنُ بالتصريح بنفاقه في أكثر من موضع (كالتوبة 80 والمنافقون 8