[size=24]الحجر الأسود تاريخ وأحكام
للدكتور / خالد سعد النجار
الحجر الأسود أشرف حجر على وجه الأرض ، وهو أشرف أجزاء البيت الحرام ، ولذا شرع تقبيله واستلامه ، ووضع الخد والجبهة عليه ، وموضعه جهة الشرق من الركن اليماني الثاني الذي هو في الجنوب الشرقي وارتفاعه من أرض المطاف متر واحد ونصف المتر ولا يمكن وصفه الآن لأن الذي يظهر منه في زماننا ونستلمه ونقبله إنما هو ثماني قطع صغيرة مختلفة الحجم أكبرها بقدر التمرة الواحدة ، وأما بقيته فداخل في بناء الكعبة المشرفة ، ويروى أن القطع تبلغ خمس عشرة قطعة إلا أن القطع السبع الأخرى مغطاة بالمعجون الذي يراه كل مستلم للحجر وهو خليط من الشمع والمسك والعنبر موضوع على رأس الحجر
أما طوله فقد رآه محمد بن نافع الخزاعي يوم اقتلعه القرامطة في القرن الرابع الهجري ورأى السواد في رأسه فقط وسائره أبيض وطوله قدر ذراع ، وأول من طوق الحجر الأسود بالفضة عبد الله بن الزبير صوناً له وتتابع من بعده الخلفاء والأغنياء وكان آخر من أهداه إطاراً قبل الدولة السعودية السلطان محمد رشاد خان سنة 1331هـ وكان من الفضة الخالصة ، وقد أصلح الملك عبد العزيز آل سعود من هذا الطوق ثم في عام 1375هـ بدل الملك سعود يرحمه الله الإطار السابق بآخر من الفضة الخالصة
وقد مرّ على الحجر الأسود حوادث كثيرة أولها ما ذكره ابن إسحاق أنه عندما أخرجت جرهم من مكة خرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة والحجر فدفنها في زمزم وانطلق ، غير أنّ امرأة من خزاعة شاهدت عملية الدفن فأخبرت قومها فأعادوه إلى مكانه ،
وفي الجاهلية أيضا كان خويلد أبو خديجة أم المؤمنين
واحداً من رجالات قريش الذين سجّل التاريخ لهم مآثر في مكّة المكرّمة من أعظمها مأثرة الدفاع عن الكعبة يوم هاجمها تبع ، وأراد أن يحمل الحجر الأسود إلى اليمن .. لقد قاد خويلد جماعة من رجالات قريش ، ونازع تبعاً ليصدّه عن أخذ الحجر الأسود ، ونقله من مكانه في الكعبة المكرّمة ، فحال الله دون ما أراد تبع ، ولم يقدر على ما أراد .قال ابن الأثير : « وهو ـ خويلد ـ الذي نازع تبعاً حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن ، فقام في ذلك الوقت خويلد ، وقام معه جماعة من قريش ، ثمّ رأى تبع في منامه ما روّعه ، فنزع عن ذلك ، وترك الحجر الأسود في مكانه »
وفي حياة الرسول
وقبل مبعثه الشريف أصاب الكعبة حريق صدّعَ بنيانها، وأوهن حجارتها، فحارت قريش في أمرها، وترددوا في هدمها، حتى تقدم الوليد بن المغيرة فاقتلع أول حجر منها، وشارك النبي
وهو شاب في نقل حجارتها مع الناقلين من بني هاشم، وهو الذي وضع الحجر الأسود في مكانه، فاستقر ببركة جهوده، بعد أن اختلف الناس واحتكموا إلى أول داخل للبيت، فكان هو
أول داخل للكعبة ، فاتفقوا على تحكيمه في قصة مشهورة ترويها كتب السيرة الشريفة.
ولم يعتر الحجر الأسود نقل أو تغييب من عهد قصي إلى بناء عبد الله بن الزبير وهو أول من ربط الحجر الأسود بالفضة عندما تصدع من الأحداث التي جرت عام (64 هـ) حيث احترقت الكعبة بسبب الحرب بين ابن الزبير الذي تحصَّن داخلها ، وقائد يزيد - الحصين بن النمير- الذي رمى الكعبة بالمنجنيق ، وتطايرت النار وأحرقتها، وتكررت الفعلة سنة (73 هـ) على يد الحَجّاج ، ثم أضاف إليه الخليفة العباسي هارون الرشيد تنقيبه بالماس وأفرغ عليه الفضة
ولعل أفظع ما مرّ على الحجر الأسود حادثة القرامطة الذين أخذوا الحجر وغيبوه 22 سنة ، وردّ إلى موضعه سنة 339 هـ ، فلقد غزى أبو طاهر القرمطي القطيف واحتلها واحتل مكة المكرمة وانتهب الحجر الأسود 317هـ وفي 318هـ تقريبا سن الحج إلى الجش بالأحساء بوضع الحجر الأسود في بيت كبير في قرية الجش وأمر القرامطة سكان منطقة القطيف بالحج إلى ذلك المكان ، ولكن الأهالي رفظوا تلك الأوامر ، فقتل القرامطة أناساً كثيرين من أهل القطيف ولا زالت بعض آثار ذلك البناء باقية وهي عين الجعبة ( الكعبة) وفي ذلك يقول شاعرها المعاصر
ولو لم تكن من رياض الخلود *** لما زارها الحجر الأسود
ويقال أن أبا طاهر نقل الحجر الأسود إلى الكوفة خلال عام 330 هـ ولكنه أعيد ثانية إلى الأحساء
قال ابن كثير : وفي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رد الحجر الأسود المكي إلى مكانه في البيت ، وقد بذل لهم ( أي القرامطة ) الأمير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه فلم يفعلوا ، ثم أرسلوه إلى مكة بغير شيء على قعود فوصل في ذي القعدة من هذه السنة ولله الحمد والمنة وكان مدة مغايبته عندهم ثنتين وعشرين سنة ففرح المسلمون لذلك فرحا شديدا )
وقد وقع حادث على الحجر الأسود في آخر شهر محرم عام1351 هـ عندما اقتلعت قطعة من الحجر الأسود وعمل الأخصائيون مركبا كيماويا وأضيف إليه المسك والعنبر وبعد أن تم تركيب المركب الكيماوي أخذ الملك عبد العزيز رحمه الله قطعة الحجر بيده ووضعها في محلها تيمناً .
• الحجر الأسود في ظلال السنة
قال
( الحجر الأسود من حجارة الجنة ) (1) ( نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم ) (2) ( إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله تعالى نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب ) (3) يعني بالركن ههنا : الحجر الأسود ، وسمي ركنا لأنه مبني في الركن ( إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطا ) (4) ( لولا ما مس الحجر من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي وما على الأرض شيء من الجنة غيره ) (5) ( ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ) (6)
الحجر الأسود وفقه العبادات ( الحج )
1- الطواف
والطواف ركن من أركان الحج في جميع المذاهب ( طواف الإفاضة ) وفي العمرة كذلك ( طواف الركن )، وبدء الطواف يكون من الحجر الأسود ، فعن جابر بن عبد الله
قال [ خرجنا مع النبي
في حجة الوداع حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشي أربعا .. ] (7)
قال الشوكاني : فيه دليل على أنه يستحب أن يكون ابتدأ الطواف من الحجر الأسود بعد استلامه وحكي في البحر عن الشافعي والإمام يحيى : أن ابتداء الطواف من الحجر الأسود فرض (
وقال ابن رشد صاحب بداية المجتهد : والجمهور مجمعون على أن صفة كل طواف واجبا كان أو غير واجب ، أن يبتدئ من الحجر الأسود .. (9) فإن ابتدأ من غيره لم يعتد بما فعله حتى يصل إلى الحجر الأسود فإذا وصله كان ذلك أول طوافه
2- الطواف من الحجر إلى الحجر
عن ابن عمر
قال [ رمل رسول الله
من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا ] (10) وجاء في كيفية الطواف : أن يدور الحاج ( أو المعتمر ، أو الطائف ) حول الكعبة بنية الطواف ، سبع مرات ، يبدأ كل شوط من الحجر الأسود ، محاذيا له بجميع البدن ، ويختمه بالحجر جاعلا الكعبة عن يساره ، خارجا بجميع بدنه عن حجر إسماعيل عليه السلام ، وعن الشاذروان ( وهو بناء مسنم قدر ثلثي ذراع خارج عن عرض جدار الكعبة
قال الإمام النووي (11) في كيفية الطواف أن يحاذي بجميع بدنه على جميع الحجر ، وذلك بأن يستقبل البيت ، ويقف على جانب الحجر الذي إلى جهة الركن اليماني ، بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ، ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ، ثم ينوي الطواف لله تعالى ، ثم يمشي مستقبلا الحجر ، مارا إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر ، فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره البيت ، ويمينه إلى خارج ، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز ... ثم المرور بجميع الأركان ، ثم يمر منه إلى الحجر الأسود ، فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه ، فيكمل له حينئذ طوفة واحدة ... وهكذا يفعل سبعا
ثم قال : وينبغي أن ينتبه هنا لدقيقة ، وهي : أن من قبّل الحجر الأسود فرأسه في حد التقبيل في جزء من البيت ، فيلزمه أن يقر قدميه في موضعهما حتى يفرغ من التقبيل ويعتدل قائما ، لأنه لو زالت قدماه من موضعهما إلى جهة الباب قليلا ، ولو قدر بعض شبر في حالة تقبيله ، ثم لما فرغ من التقبيل اعتدل عليهما ، في الموضع التي زالتا إليه ، ومضى من هناك في طوافه ، لكان قد قطع جزءا من مطافه وبدنه في هواء الشاذروان ، فتبطل طوفته تلك (12) وهذا خطأ شائع يقع فيه الطائفون ، دون أن ينتبهوا لذلك . والله أعلم . وفي المغني قولان يجزئه ولا يجزئه (13) .
3