الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فيحلو لكثير من المحللين أن يصف صواريخ الفلسطينيين التي يطلقونها باتجاه العدو اليهودي بـ"الصواريخ العبثية"، وربما وصفوها بأنها "كرتونية"، أو غير ذلك من الأوصاف "الاستعلائية"، وبعد تخليص جد كلام هؤلاء من عبثه نجد أنهم يستندون في وصفهم ذلك إلى أمرين:
الأول: أن هذه الصواريخ من النوع محدود الأثر، محدود المدى، لا يقارن بما يملكه "الرجل الأبيض" من صورايخ عابرة للقارات، ولا حتى بما تملكه الجيوش النظامية من صواريخ متطورة.
الثاني: أن هذه الصواريخ تستفز العدو الإسرائيلي، وتدفعهم إلى شن غارات انتقامية -ربما خجلوا من وصفها بالدفاعية- يسقط من جرَّائها القتلى والجرحى.
فأما الأمر الأول فالكلام عليه ضرب من العبث وذلك لما يلي:
أولا: لأن القاصي والداني يعلم أن هذا هو غاية الممكن والمستطاع في حق المجاهدين؛ فأي عبث في هذا؟! أيمنع العطشان الذي يجد غرفة ماء من ري عطشه بها طالما أنه لم يجد ما يبلغه حد الارتواء؟! أو يمنع الجائع من إقامة صلبه بلقيمات حتى يجدَ ما يملأ به بطنه؟!
ثانيا: لأن من يملك الأسباب الكبرى قد يرى أحيانا أن السبب الأخف أنسب لسبب أو لآخر، ويكون ذلك حينها نوع من الحكمة لا العبث، قال الإمام النووي -رحمه الله- في روضة الطالبين: "فإن أمكنه الرمي بالأحجار فهل تقوم مقام السلاح؟ وجهان. قلتُ: أصحهما تقوم. والله أعلم".
فإذاً ينحصر الكلام مع هؤلاء المحللين في الأمر الثاني؛ وهو مسألة تهييج إسرائيل واستفزازها، وهو مأخذ وجيه من حيث المبدأ؛ فقد جاء الشرع بتقريره، ولكن هل هو موافق للواقع الإسرائيلي فيما يتعلق بالسلوك الإسرائيلي في فلسطين خاصة؟؟
هل نسينا مدرسة بحر البقر؟!
هل استفز تلاميذها إسرائيل؟
أم أن الموساد رصد الصواريخ الورقية التي يقذف بها تلاميذ المدارس بعضهم بعضا فرأى توجيه ضربة وقائية لهذه المدرسة؟!
إن خمسين عاما من الصراع العربي الإسرائيلي تشهد بحقيقة واحدة، وهي أن الصلف الإسرائيلي يتناسب عكسيا مع مقدار المقاومة أيا ما كانت، وأنه كلما استكان المسلمون كلما زاد الإسرائيليون في بطشهم وغيهم، والعكس بالعكس.
نعم لو تصورنا أن اليهود عدو عاقل، لوجب حساب كل خطوة قبل الإقدام على استفزازهم، ولكنهم نوع من الشياطين في جثمان إنس، والشياطين يخافون من الإنس المؤمنين، ولكنهم متى رأوا أن الإنس يخافون منهم انتعشوا وعربدوا (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)(الجن:6)، وقد أخبرنا الله -عز وجل- عن جبنهم؛ فقال: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)(الحشر:14).
وخلال خمسة وعشرين عاما تمثل تقريبا نصف مدة الصراع مع إسرائيل لم يتحقق نصر على إسرائيل إلا بما يسميه البعض بـ"الأسلحة العبثية"، بل بدأ الأمر بسلاح عبثي بالفعل وهو "الحجارة"، والذي كان تحويله إلى سلاح حقيقي اختراعا فلسطينيا خالصا، وأمام هذا السلاح الذي كان عبثيا فرَّ جنود الاحتلال تاركين "غزة" للمسلمين، والحمد لله رب العالمين.
فلما بَعُدَ العدو.. وصارت حجارة الأطفال لا تصله، هيأ الله للمجاهدين "صورايخ بدائية" لم يعبثوا بها، وإنما رموا بها عدوهم، وما زالت في تطور إلى أن ضربت صواريخ المجاهدين العمق الإسرائيلي، والحمد لله رب العالمين.
أظن أن الذين وصفوا هذه الصواريخ بالعبثية يحتاجون إلى أن يراجعوا مواقفهم إن كانت بالفعل مبنية على الحرص على حساب الخُطى قبل الإقدام على جهاد الأعداء.
ولو كانت هذه الصواريخ هي التي سببت هذا الرد الصهيوني، وليس أن حماس جماعة إسلامية ذات توجه "أصولي" كما يسمونه، وهذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها؛ لأنهم وغيرَهم من أوليائهم لا يقبلون "إمارة إسلامية في غزة"، لو كانت هي السبب في هذا الرد فلا شك أنها مؤثرة، وتحدث فيهم نكاية، تجعلهم يفاوضون على التهدئة، ويجعلون ثمنها إيقاف إطلاقها فهل من تناقض أوضح من ذلك "أن توصف بأنها عبثية، وأنها هي السبب في هذا الرد"؟!
بيد أن كثيرا ممن يحلو له أن يصف صورايخ المجاهدين بالعبثية مع أن مداها عشرات الكيلومترات، ومع أنها موجهة إلى الأعداء، فاتهم أن يحذروا الأمة من "الصواريخ العبثية الحقيقية"، وهي صواريخ "رأس السنة الميلادية" فهي عبثية بكل معاني الكلمة.
فمن جهة المراد بها؛ لا نعلم لها غاية إلا اللهو واللعب، وهي عبثية؛ لأنها كثيرا ما أودت بحياة البعض عبثا، واستهتارا بدماء المسلمين، وإن كان قتيل المعركة عزاؤه أنه قتل بيد أعدائه، وأنه يرجو الشهادة، فماذا عن قتيل صورايخ رأس السنة؟
وهي من جهة أخرى عبثية؛ لإفسادها لدين صاحبها الذي نهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اللهو واللعب -حتى المباح منه- في أعياد الجاهلية كما في الحديث؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: (قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما. فقال: ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبو داود، وصححه الألباني.
فكم كنا نتمنى من أصحاب النهي عن الصواريخ العبثية أن يوجهوا شيئا من سهام نقدهم إلى تلك الصواريخ العبثية شكلا وموضوعا، وإلا كان كلامهم ضربا فجا من ضروب العبث.